مذموم وأكثر، المتفرد مشتوم أيضا، يشتمه من لم يحلق في سربهم، ثم يشتمه المحلقون في سربه!، لا يلتفت كثيرا لشتائم الفئة الأولى، فمدائحهم هي التي ترعبه!، لكنه يلتفت قليلا أو كثيرا إلى شتائم مقلديه ثم يجد لهم العذر أيضا، لا المقلد يحب المتفرد الذي قلده، ولا المتفرد يحب مقلديه، ينتهيان إلى نفس المقت والضيق والضجر، وإن كان لكل منهما أسبابه المختلفة التي انطلق منها، فمهما بدا المقلد أول الأمر منتميا بفكره وأحاسيسه ولغته إلى المتفرد، بل وبالذات حين يبدو كذلك، فإنه وبعد فترة وجيزة يشعر بالاختناق والتأفف، يأتي ذلك لأسباب داخلية وخارجية كثيرا ما تتضافر مع بعضها البعض، منتجة لغة بذيئة، يأتي من الداخل لأن المقلد يشعر بأنه تابع ويريد محاربة هذا الإحساس المقيت، لكنه يشعر بتمكن المتفرد منه، ويحس بأنه أحكم القيد عليه وحاصره من كل جانب، ومتى كان مقلدا جيدا ذبحه شعوره بأن لديه نفس الأدوات التي جعلت من المتفرد متفردا، فيما عدا الجراءة والمغامرة والسر الخفي المنتج لهذه المغامرات بجراءة محسوبة على كل ما فيها من طيش، فيشعر بحنق شديد كيف قدر هذا على تحويله إلى تابع إلى مجرد تابع وإلى ظلال مجرد ظلال لجسده وخطاه، فيشتم أو يمنعه الحياء والخوف قليلا، لكنه يفعل ذلك عما قريب حين يتكاتف هذا الشعور الداخلي مع مؤثرات خارجية آتية لا محالة، حيث أصوات كثيرة صحافية وأدبية ومن محيطه الخاص ومن عامة الناس، وبغض النظر عن نواياها، إلا أنها جميعا تبدأ الضرب على الوتر الحساس، فتكثر الأسئلة التي تربط بين الاثنين، خاصة أن كانا من جيل واحد وزمن متقارب ومحيط جغرافي واحد، وكان كلاهما على قيد الحياة. أسئلة تأخذ شكل الاتهام أو الحكم أو التشفي أو اللمز والسخرية أو استعراض العضلات أو الاتهام أو حتى مجرد الرأي البريء، أو الاجتهاد النقدي غير متقصد الأذى، وبعضها يجتر ما صار طرحه مباحا من وجهة نظره لكثرته وعمومه دون وثوق تام بصحته أو اهتمام بسلامته، هنا تحدث لحظة الانفجار، لا ينجو من ذلك إلا من رحم ربي، وفي الغالب يجد المقلد نفسه مجرورا إلى لغة قليلة الحياء، فقيرة الذمة، ضيقة الأفق، لا تفرق بين الوقاحة والجسارة في شيء، وإن كان في أعماقه البعيدة يعرف أنها الوقاحة، وأنه قد انزلق في دروبها، أما المتفرد فلديه أسباب أخرى مختلفة لعدم محبة مقلديه، أهمها أنه لا يشعر حقيقة بامتنان من أي نوع لمن يعرض عليه بضاعته بحرفية وصناعة أقل جودة، ومعه في ذلك كثير من الحق، تخيل ببساطة أنك تعلم شخصا بعض أسرار ألعابك السحرية، ثم يستغرب عليك عدم انبهارك فيما يعرض عليك من مهارة، سبق له أن استلفها أو تعلمها منك، بل ويعتبر عدم انبهارك هذا شتيمة صامتة وصلافة جاهرة وإنكارا لموهبته ونبوغه، يثير ذلك فيك قرفا واستياء حادا، يتراكم ثم يظهر فيما بعد، وقد يسكت المتفرد فترة أطول عن مقلديه، لكن ذلك لا ينجيه منهم، فهم يعتبرون مجرد عدم إطرائه لهم إهانة بالغة، وقد يزيد الطين بلة إذا ما صادف سؤالا عن أحدهم فتصرف على طبيعته وقال رأيه الذي يؤمن به، وهو رأي لن يكون في صالحهم، فيشتمون، وفي الغالب تكون هذه هي لحظة الانفجار بالنسبة إليه، لكنه في العميق العميق من وجدانه يشعر بالخوف، ليس منهم، لكن من نموذجه الذي قدم، فالمجيد من مقلديه يشعره بقلق شديد على حقيقة جودة ما قدم، فها هو المقلد الجيد يقترب منه دون الحاجة إلى كل هذا الجهد وتلك السنين التي بذلها في العطاء والفكر، لكنه ونحن نتحدث عن المتفرد بحق سرعان ما يتوقف عن الخوض في هذا الوحل، يشعر أن لديه ما يجب عمله، وأنه لم يخلق لمثل هذه السفالات ويكمل طريقه وحيدا وفي شبه عزلة، أما هم ومن العجائب المضحكة المبكية، فإنهم يتحدون فيما بينهم في اتفاق تلقائي غير مكتوب وغير مخطط له، ويشكلون فيما بينهم جماعة تبدو متحابة ومتوافقة، يتصافحون بحرارة، لكن كل واحد منهم يعلم علم اليقين أن يد صاحبه الأخرى اختفت وراء ظهره، حاملة سكينا، وفي لحظات قليلة ونادرة ومتباعدة ينفلت الزمام، وساعتها (اللي ما يشتري.. يتفرج)!. يقول المتنبي: (أفي كل يوم تحت إبطي شويعر)، ويقول محمود درويش: (الظل لا ذكر ولا أنثى)!.