الاقتصادية - السعودية تمثل الدولة كتنظيم أعلى درجات الاجتماع الإنساني، إذ إنها تتميز عن باقي النماذج بأنها مبنية على تقنين العلاقة بين فئات المجتمع داخل حيز مكاني معترف به دولياً. هذه الحالة القانونية للدولة تستدعي بالضرورة انصهار المجتمع بجميع فئاته ومكوناته في بوتقة واحدة داخل إطارها المؤسسي وتقديم الولاء لها على باقي العلاقات والارتباطات الأخرى سواء القبلية أو المذهبية أو حتى الفكرية. ويبرز هنا مفهوم العقد الاجتماعي الذي يتفق فيه المجتمع على معادلة التعايش وأسلوب إدارة المجتمع بما يتفق مع قيمه واحتياجاته وتطلعاته وبما يضمن السلم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي والاستقرار والقوة والمنعة. وهكذا تكون الدولة كشكل قانوني يختلف عن الأشكال الأخرى القائمة على العلاقات القبلية أو العصبية أو المذهبية أو غيرها من نماذج التنظيم الاجتماعي. ففي إطار الدولة يكون التعامل بين الناس على مبدأ التساوي في المواطنة، الذي يضمنه القانون العام، وبالتالي هو لا يخضع للهوى أو العاطفة أو العصبية كما في النماذج الأخرى التي تعتمد على القيم والمعايير والأعراف التقليدية. ومستوى الوعي والحيادية والموضوعية في إدارة المجتمع والعلاقة القانونية والتعايش السلمي فيما بين الناس، هو ما يميز نموذج الدولة، ويجعل المجتمع في مستوى حضاري أعلى. ويتحقق مفهوم الدولة عندما يدرك الناس أن عليهم التنازل عن جزء من حرياتهم الشخصية وحتى حقوقهم المالية من أجل سلطة متفق عليها تتولى إدارة الدولة. هذا التنازل من الأفراد يكون من أجل الضبط الاجتماعي والحفاظ على الضرورات الخمس: النفس والدين والعرض والمال والعقل. فالناس يحتاجون للعيش في كيانات أكبر من العائلة والقبيلة، إذ إن تلك الكيانات الصغيرة غير مجدية أمنياً واقتصادياً. ويتحقق مفهوم الدولة عندما يصل الأفراد والجماعات إلى قناعة تامة بالمصلحة المتحققة من اجتماعهم في إطار قانوني يرتضونه، وينطلق من إيمانهم العميق بوحدة المصير والرؤية المشتركة. هذه العلاقة القانونية بين مكونات المجتمع ليس من السهل إدراكها وتقبلها، خاصة عندما تتجاذب الأفراد ولاءاتهم العائلية أو القبلية أو المذهبية أو الفكرية أو المناطقية وتجعلهم يقدمونها على الولاء للدولة. ولذا تتحدد درجة تحضر المجتمعات بدرجة ولائهم للدولة وتقديمها على باقي الولاءات الأخرى. وصعوبة تقبل مفهوم الدولة قد يكون بسبب الحدود التشريعية والجغرافية التي تحد من حركة الأفراد وحريتهم حسبما يرون ويرغبون دون قيد أو شرط. ولذا وقعت كثير من النزاعات والتصادمات مع الدولة بسبب غياب أو عدم إدراك البعض لمفهوم الدولة وتقبل الإطار القانوني والمؤسسي كضابط للسلوك العام. على سبيل المثال، قد يرى البعض الخروج على الدولة لعدم قناعتهم الشخصية بالقرار الجماعي الذي يصدر عن الدولة، وهذا كسر للعقد الاجتماعي وإفساد للاجتماع وخروج عن المشترك، وجميع ذلك يخلق فوضى عارمة، ويؤدي إلى زعزعة الاستقرار وإضعاف المجتمع وتفكك لحمته. إن سيطرة حب الذات والعاطفة والتعصب للرأي، والاصطفاف الفكري والطائفي وعدم استطاعة البعض إدراك الحقوق والواجبات وربطها بالمصالح العليا للوطن يدفع بالبعض نحو الخروج عن الصف والمشترك الوطني وتحدي القانون العام. ولا شك أن الخروج على الدولة سلوك غير رشيد وغير حكيم على الأقل من الناحيتين المنطقية والواقعية، لأنه خروج على الإجماع العام والمرجعية القيمية والمبادئ التي اتفق عليها المجتمع. هذا فضلاً عن أن الخروج على الدولة التي تحكم بالشرع فيه محظور شرعي بيّنه بوضوح المختصون في العلم الشرعي؛ فالبيعة الشرعية رباط مقدس يلزم الحاكم والمحكوم على حد سواء باحترامه والعمل بمقتضى شروطه وعهوده. وإذا كان احترام القانون العام شرطاً أساسياً في استقرار المجتمع وتنميته، فإنه يقتضي لزاماً كمطلب لتحقيقه العمل على سيادته وتطبيقه على الجميع دون تمييز. أي أن مقدار احترام القانون مرتبط بمقدار تطبيقه في جميع الأحوال والظروف دون استثناء. وعندما ينبثق التشريع أو القانون من المجالس النيابية الشعبية "مجلس الشورى، مجالس المناطق، المجالس المحلية والبلدية" يكون أكثر استجابة وإقناعاً وقبولاً. فمشاركة الناس في صياغة التشريعات من خلال نوابهم في المجالس النيابية يؤدي إلى حرصهم على تطبيقها ويعزز ارتباطاتهم وانتماءهم للدولة. ولذا فالعموم يحتاجون لتربية سياسية تعلمهم أن الوقوف في الصف واتباع الأنظمة يحقق معاً مصالحهم والمصلحة العامة، وأن إدارة الاختلاف تكون بالطرق السلمية، وأن الخلاف والتباين في وجهات النظر يمكن مناقشتها تحت قبة المجالس النيابية من خلال إجراءات قانونية وسياسية تحقق الوصول إلى صيغة توافقية على الأقل الحد الأدنى من الرضا. وهنا يلزم ملاحظة أن القرار العام لا يمكن أن يعظم الرضا لدى جميع الأطراف المشاركة في صنعه، ذلك أن هناك تفاوتاً في الاحتياجات والتفضيلات والرغبات بين مكونات المجتمع، ولا يمكن للقرار العام واقعياً ومنطقياً وفنياً استيعاب تلك التباينات ومنح كل طرف ما يرغبه. لذا يتم اللجوء إلى حلول وسطية توافقية، ولكن لا بد للقرار العام أن يطبق بالتساوي على الجميع بغض النظر عن التفاوت في التفضيلات، ما يجعل البعض يصف القرار العام بالافتقار إلى العدالة وعدم الكفاءة وهو أمر غير صحيح في مجمله. ومن أجل ذلك كانت الحاجة إلى إشراك الناس في عملية صنع القرار العام حتى يتبينوا من عند أنفسهم صعوبة الوصول إلى قرار يعظم العائد والرضا عند كل الأطراف. إن مفهوم الدولة مقرون بمفهوم القانون، وهو مفهوم تجريدي حيادي قد يصعب على الكثيرين فهمه، خاصة في المجتمعات التي ما زالت الولاءات الصغرى مثل القبيلة والعائلة والمذهب تمثل وزناً كبيراً وتطغى على الولاء الوطني. إن عدم فهم مقاصد القانون والإحساس بقيمته وغياب الرؤية المشتركة تقف عائقاً أمام انتظام المجتمع وإنتاجيته وقوته. فقوة وإنتاجية واستقرار أي نظام اجتماعي مرهونة بتماسكه، ويمثل تطبيق واحترام القانون العام المادة اللاصقة للعلاقة المجتمعية. كما أن مستوى تحضر المجتمع يرتبط بمدى قناعته والتزام أفراده بتطبيق القانون واحترامه بوحي من الرقابة الذاتية. ونختم بالقول إن تحقيق الالتزام بقانون الدولة يقتضي بالضرورة تطبيق دولة القانون.