تباين في أداء القطاعات بسوق الأسهم السعودية    40 مليار ريال حجم الاقتصاد الدائري بالمملكة    الضّب العربي.. توازن بيئي    بيع المواشي الحية بالوزن.. الخميس    "إعلان إسطنبول": التأكيد على أهمية تعزيز أواصر التضامن بين أبناء الأمة الإسلامية    يوفنتوس يفوز برباعية على الوداد    «المنافذ الجمركية» تسجل 1084 حالة ضبط    في الشباك    غزة: 450 شهيدًا جراء «مصائد الموت»    البحر الأحمر يعلن عن تمديد فترة التقديم للمشروعات السينمائية    هيئة التراث تطلق حملة "عادت" لرفع الوعي بأهمية الآثار    الشاعر بين إيصال المعنى وطول النفس    152 حديقة ومرفقا رياضيا وثقافيا بجازان    الأحساء تستعرض تجاربها في الحرف والفنون ضمن مؤتمر المدن المبدعة بفرنسا    أوكرانيا خارج حسابات قمة الناتو    أكثر من 19 ألف جولة رقابية على جوامع ومساجد مكة    الحل السياسي يحقق الأمن والاستقرار للمنطقة    البديوي: الدبلوماسية سبيل فعال لتسوية النزاعات    أمير قطر يبحث هاتفيًّا مع رئيسة وزراء إيطاليا آخر المستجدات الإقليمية والدولية    أمير حائل يكرّم 73 طالبًا وطالبة حققوا مراكز متقدمة في مجالات علمية وثقافية    وزير الداخلية يودع السفير البريطاني    السوق السعودي يغلق منخفضًا 36 نقطة    رينارد يتوقع مستقبل مميز للمنتخب السعودي    العلا تعزز الاقتصاد بموسم الفواكه الصيفية    الشؤون الإسلامية توزع هدية خادم الحرمين من المصحف الشريف على الحجاج المغادرين عبر منفذ عرعر    إثراء يشارك في مهرجان للعمارة والتصميم في إسبانيا بمشاركات زراعية سعودية    «صندوق شفاء» يواصل ويتوسع في تقديم المساعدات والخدمات الإنسانية للمرضى    "القنبلة الخارقة" تقصف قلب البرنامج النووي الإيراني    الأرصاد: رياح مغبرة تؤثر على عدة مناطق وأمطار رعدية متوقعة على جازان وعسير    أستراليا: دراسة تحذّر من تأثير ضربات الرأس في كرة القدم على كيمياء الدماغ    المرور: ترك المركبة في وضع التشغيل عند مغادرتها يعد مخالفة    10 أيام تفصلنا عن بدء تطبيق "تصريح التوصيل المنزلي"    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تكريم المنشآت الفائزة بجائزة الملك عبدالعزيز للجودة    "جوجل" تطلق ميزة البحث الصوتي التفاعلي    وزير الخارجية يبحث مع نظيريه الباكستاني والمصري المستجدات    البرازيل تطلب استضافة مونديال الأندية 2029    "جالينو" يقترب من مغادرة الأهلي    وفد يلتقي أعضاء لجنة الصداقة البرلمانية الفرنسية – الخليجية.. رئيس الشورى ومسؤول إيطالي يناقشان التعاون البرلماني    أمراء ومسؤولون يؤدون صلاة الميت على مشعل بن عبدالله    مملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات.. شركة لبناء وتشغيل مرافق إكسبو الرياض 2030    6 رحلات يومية لنقل الحجاج الإيرانيين من جدة إلى عرعر    شاشات ذكية ب 23 لغة لإرشاد الزوار في المدينة المنورة    الإطاحة بمروج مواد مخدرة بمنطقة الجوف    "التخصصي" يستعرض ريادته في مؤتمر دولي.. الفياض: السعودية رائدة في قطاع التقنية الحيوية والطب الدقيق عالمياً    %99 استقرار أسر مستفيدي زواج جمعية رعاية    جازان تودع الشاعر والأديب موسى بن يحيى محرق    عواقب التخلي عن الدهون الحيوانية    اختبار منزلي يقيّم صحتك    ما يسعدك قد لا يسعد غيرك.. أبحاث جديدة تدحض وصفة السعادة العامة    إنتر ميلان ينجو بصعوبة من فخ أوراوا    نائب أمير الشرقية يعزي العطيشان    هل تموت الكلمات؟    لا يفوتك هذا المقال    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على صاحب السمو الأمير مشعل بن عبدالله بن فهد بن فيصل بن فرحان آل سعود    الجبهة الداخلية    احتفل دون إيذاء    أمير منطقة جازان ونائبه يزوران شيخ شمل محافظة جزر فرسان    تسمية إحدى حدائق الرياض باسم عبدالله النعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عائشة: حين يبكي حبيبٌ على حبيب

جاء الصوتُ مثقلاً بآهات حزينة، ومُفعَما ببشائر الرضا:
"عائشة ماتتْ بعد أن عانتْ .."ثم سكتَ، وثقل الصمتُ، وكأن صاحب الصوت يتجرع شيئا غليظا ليمكنه أن يكمل:
"لقد ماتت وهي تحبك ..".
وهنا لم أستطع أن أتحكم بحزمة أعصابي، فانفلتتْ بكاءً، وأثقلتُ الرجلَ الذي جاء يتلمس تخفيفا عن قلبه المُترَع.
ذاك الصوتُ الذي صهره الحزنُ، صوتُ أبي عائشة بنت محمد الزعبلي الشهري ..
عائشة ماتت ولم يعرفها إلا قلة على هذه الأرض. ماتت بطلة من أعظم البطلات اللاتي شهدتُ بحياتي. عانيتُ معها، وضحكت معها. ماتت قوية مؤمنة ضاربة مثلاً لا يوجد إلا في حكايا الثبات والشجاعة والإيمان .. إيمانٌ غريب "أراه" معها، حولها، يملأ المكانَ وكأنك حين تدخل لغرفة هذه البنت الصغيرة التي ساهم المرضُ في نهم نموها، وشرب رحيق عمرها، البنت التي لم تعرف من هذه الدنيا إلا ثلاثة أشياء: الألم، والإيمان، والحب، ترى إيماناً وكأنك في محرابٍ تدخله أنوارٌ من كل الجهات ويزداد ويتسع ويرتفع وينتشر.. حتى تظن أن النورَ ينبعُ منه نور.
كانت عائشة لم تعرف إلا الألم، وتقول: "هل هناك شيءٌ في الدنيا غير الألم؟" تقولها وهي تضحك، فهي تملك أغلى وأذكى وأكثر البسمات نفاذاً للقلوب .. وعندما تسمع منها ما تتعجب منه، يُقبَضُ قلبُك، وتصر الدموعُ أن تتفجر من عينيك .. لتقوم هي بأناملها الصغيرة مادة ذراعاً هزيلا لتعطيك ما به تمسح الدموع .. فتعيد لك توازن الأضواءِ وبهاءِ الإشعاع، ورونق الجمال البشري في مقاماته الرائقة ببسمةٍ أخرى .. ربّاه: ما الذي يمكنك أن تفعل؟
لم أحب أحدا بطريقة لا يمكن شرحها، كما أحببتها. شرح ذاك الحب كأن تنتفَ ياسمينةً مُضمخةً بالعبَق تبحث عن منبع العطر حتى تختفي الوردة، ويختفي العطر.. حبٌ ينمو وهي مريضة في مستشفى بالفلبين موصولة بالأنابيب والمغذيات، وشاشة جهاز الديلزة الذي ينظف دمَها من السموم، حيث أضربت الكليتان عن العمل في أوائل العمر، تخبرك أنها صلتها الوحيدة بالحياة .. صلتها إلى حين. كان الحلُّ النهائي أن تُستزرع لها كلية من متبرع..
كنت أحزن وأندم، وهي دوما تمنعني، وتترجاني بعينيها الكبيرتين المُجهَدتين، بألا أحزن، وتقول لي بإصرار: "فعلت كل ما بيدك".. وإني راضية عنك. وإني أسمع كلمة الرضا، ولكم أحرجتني دموعي القريبة .. وكأني أسمعها من أغلى بشريّ، من أمّي ..
وقتها شكلنا آلية عمل مع مستشفى فلبيني هو الأفضل بجنوب شرق آسيا، وتشرف على قسم الباطنية الدكتورة "روز ليكيتي" واحدة من أهم متخصصي أمراض الفشل الكلوي والزراعة في العالم، هي سلطة علمية طبية بأوروبا والولايات المتحدة. ولأن الفلبين وقتها لم تكن تمانع بعمليات زراعة الأعضاء والتبرع بها من أحياء، فكنا نرتاح أن نعمل تحت ظل قانوني، ووقفنا ضد السفر للعلاج في دول لا تعترف بسبب الأخلاق الطبية بذلك، ولكن يكون هناك سوقٌ موازٍ من أشباه المتخصصين، فنخاف على مرضانا أن يعودوا بأمراض أشد. ذهب العشراتُ من مرضى الفشل الكلوي للفلبين .. حتى جاء منعٌ بسبب ممارسات معقدة لا سبيل هنا لشرحها، وفقدنا ملاذَنا الوحيد الذي نعرف أن المريض سيتلقى به أفضل ما وصل إليه علم جراحة الكلى وزراعة الأعضاء .. جاء المنعُ قبل يوم واحد فقط من جدولة مريضتي الاستثنائية والأغلى عائشة، ولم نترك وسيلة لأخذ استثناء من السلطة الفلبينية، ولن أنسَى جهود صديقَيْ السفير السابق محمد أمين ولي، وأخي فهد المصيبيح ملحقنا الصحي، وهو إنسان نادر حاول معي وحاول بعدي .. ولكن كما قالت عائشة: "فعلنا كل ما أمكننا". لم يمكننا عمل شيء!
ضاعت حيلتي، سوى أني كنت لا أبارح غرفة عائشة، ولا هي ترضى أن أذهب .. وتعلمت منها دروسا في الصبر، وفي التفاؤل، وفي استقبالات الحياة .. وفي إصرارها أنها ستكتب فقط حتى تُرِي العالمَ أنها بسهولة ستتفوق على نجيب .. وكنا نضحك، وأترجّاها ألا تفعل. تعلمت كيف تنظر لأبيها كما تنظر أعظم مُحِبَّة لأجمل مُحب، تعلمت من أبيها أشياء لا تبعثر هنا على ورق ..
وكنت يوما قد كتبت في سبيل حملة "كلانا" مقالاً بعنوان: "عائشة: حتى لا يبكي حبيبٌ على حبيب"، دعوةً للتبرع بالأعضاء .. وتصدّتْ بطلة من شابات الأمة وهي "مها المنصور" طالبة الماجستير في ليدز بالمملكة المتحدة، وفتحت صفحة حملة في الفيسبوك بعنوان "حتى لا يبكي حبيب على حبيب" ونسقت مع "جمعية الكلى" و"بنات الدمام"، وفي جريدة "الحياة" بعدد قبل الأمس رُصّعَت الجريدة بأخبار أول حملة ميدانية بشعار "حتى لا يبكي حبيب على حبيب" ينفذها فريقُ بنات الدمام بإشراف بطلة أخرى هي فاتن العتيبي. وليت اسم عائشة يُضاف، فهي أجمل وأروع وأصدق رمز سترتكن إليه الحملة ..
اللهم اغسل عائشة بماء رحمتك، وطهرها بألمها، واجعلها عروسا في رياضك .. وأن تنتظر مضيئة باسمة أحبابَها على بوابة الفردوس ..
تركت عائشة الدنيا بأول العمر، ولم تعرف مذاقا لربيع العمر. اللهم اجعل ربيعها خالداً في حياة الخلود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.