د.يوسف بن أحمد القاسم - الاقتصادية السعودية الإمام الشاطبي «مبدع كتاب الموافقات المتخصص في مقاصد الشريعة» ذكر كلاماً مهما في بيان مقاصد الشارع, ومما ذكره من المقاصد الشرعية: (أن هذه الشريعة المباركة أمية)، وليس معنى هذا أنها تحث على الأمية, وهي أمة (اقرأ), حاشا لله, وإنما المعنى كما قاله محقق الموافقات عبد الله دراز رحمه الله : (أنها لا تحتاج في فهمها وتعرّف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك)، ثم ذكر الشيخ دراز الحكمة في ذلك, ومنه (أنها لو لم تكن كذلك لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم, فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولاً, ثم تطبيقها ثانياً, وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل إليهم من عرب وغيرهم..) وهذا السر وراء قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا أمة أمية..) وهو دليل من أدلة يسر الشريعة الإسلامية, ولهذا تعرف أوقات الصلاة بأدلة سهلة وميسرة, فوقت الصلاة يعرف إما بطلوع الفجر, أو بطلوع الشمس, أو بزوالها, أو بغروبها, أو بمصير ظل كل شيء مثله, أو مثليه, أو بمغيب الشفق, أو بانتصاف الليل, وهذا يدركه الناس كلهم, ويسهل على الجميع التعرف عليه دون حساب أو علم فلك, وهذا من معاني كونها أمية, يعني يدركها الأمي بسهولة ويسر, وهكذا الحج, فالوقوف بعرفة ينتهي وقته بغروب الشمس, والوقوف بمزدلفة ينتهي بالإسفار, والرمي أيام التشريق يبدأ بعد الزوال, والطواف يبدأ بالحجر الأسود وينتهي عنده, وهو معلم واضح, والسعي يبدأ بالصفا, وينتهي بالمروة, وكلاهما جبلان ظاهران للعيان يدركهما الصغير والكبير... إلخ, وهكذا الزكاة فأنواعها معروفة ميسرة, يدركها كل المكلفين, كعروض التجارة, والسائمة من بهيمة الأنعام, والنقود المعدنية والورقية, والزروع والثمار, وأنصبتها وأحكامها العامة سهلة ميسرة, وتبقى مسائل دقيقة لا يدركها إلا المجتهدون في مجال الفقه, وهي مسائل الخلاف - وبهذا يتميز المجتهد عن العامي - أما ما أجمع عليه المسلمون ودلت عليه النصوص الشرعية القطعية, فهو مما يدركه العامة, ويسهل عليهم معرفته, وهكذا بالنسبة لشهر رمضان, فأحكامه العامة مما يسهل على الناس الوقوف عليه ومعرفته, كحكم الأكل والشرب والجماع في نهار رمضان, وتحديد وقت الصيام بطلوع الفجر إلى غروب الشمس, وهذا يدركه كل أحد, ولا يحتاج إلى تخصص دقيق ليعرفه المسلم المكلف بالصوم, بل يدركه بحاسة بصره, فبطلوع الفجر يدرك الصائم بحاسة بصره بدء وقت تحريم الإفطار, وبغروب الشمس يدرك بحاسته الإذن له بالإفطار, وهذا من تسهيل الشارع على الصائم, حيث أناط الأحكام التكليفية بأدلة واضحة وميسرة, لا تحتاج إلى واسطة, وهكذا دخول شهر رمضان وخروجه, فقد أناطه الشارع بشيء ميسر, ولهذا قال: (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته) وفي رواية (إذا رأيتموه فصوموا, وإذا رأيتموه فأفطروا) وفي رواية (إذا أقبل الليل من هاهنا, وأدبر النهار من هاهنا, وغربت الشمس, فقد أفطر الصائم)، وهذا لا يجهله إلا بليد, ولهذا يروى أن أبا حنيفة كان متحفظاً من رجل يحضر درسه, بدت عليه علامات الهيبة في حلقة الدرس, حيث كان ساكتاً طيلة مكثه في الحلقة, وكأنه مستغن بعلمه عن السؤال, ثم خرج عن سكوته, وسأل أبا حنيفة قائلا: يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا أقبل الليل من هاهنا, وأدبر النهار من هاهنا, وغربت الشمس, فقد أفطر الصائم) والسؤال يا إمام: ماذا لو أدبر النهار ولم تغرب الشمس, فقال الشيخ الإمام: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه..! فذهبت مثلا. وعوداً على ذي بدء, نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب مثلا على أمية هذه الشريعة بقوله (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب, الشهر هكذا وهكذا وهكذا) يعني: مرة يكون الشهر تسعة وعشرين يوما, ومرة ثلاثين, وهذا أمر يدرك بالرؤية كما نص عليه الحديث. وهو علامة على يسر الشريعة الإسلامية, حيث يدرك رؤية الهلال كل أحد, العامي والعالم, والعربي والعجمي.., فمن طالب بتنحية الرؤية البصرية للهلال, وطالب بفرض الحساب, فهو يسبح عكس مقصد الشارع, لا سيما أن للشارع مقصداً آخر في تحري الهلال, وهو الإبقاء على تحفز كل المكلفين لدخول الشهر وخروجه بتحري الناس للهلال, فالكل يترقب وقت الإعلان عن الرؤية من عدمها, وهذا يجعل ليوم الصوم ويوم العيد مذاقاً, لا يمكن تذوقه إلا بأسلوب المفاجأة, سواء بلحظة الإعلان عن دخول شهر رمضان أو شوال أو عشر ذي الحجة, أما الأيام المحسومة سلفا, كأعياد رأس السنة ونحوها, المحددة مسبقاً من مئات السنين, فهذه لا لون لها ولا طعم ولا رائحة, أما أعيادنا وشهر صومنا, وشهر حجنا, فلذة الشعيرة تتلمظ قبل الإعلان, وتشتعل عند الإعلان, وتتوهج بعد الإعلان - واسألوا عن هذا شركات الاتصالات التي تحقق مكاسب من رسائل التهنئة خلال ليلة واحدة ما تحققه من مكاسب خلال شهر كامل أو أكثر - فمن أراد أن يطفئ هذا التوهج, وأن يقتل هذه الفرحة, بالإعلان عن يوم الصوم ويوم العيد باجتهاد يخطئ ويصيب, فنقول له: قف عند حدك, دعنا نستمتع بشعائرنا, ودع حسابك لنفسك, علماً بأني لا أرى مانعاً من أخذ القضاء بالحساب المتفق عليه كقرينة على كذب الشهادة (في حالة النفي فقط) إذا ثبت فعلا أن هناك اتفاقاً بين الفلكيين, وإثبات حالة الاتفاق أصبحت محل شك الآن بعدما طفا الخلاف بينهم في وقائع عدة. إن الاعتماد على الرؤية البصرية, لا يعني عدم الاستعانة بالمناظير وأجهزة الرصد المتطورة, فاستعمال هذه يكون بآلة البصر, فهو إذن لا يخرج عن الرؤية البصرية, كما أنه يبقي الثقة برؤية الهلال في المملكة الذي يتشوف إليه مسلمون كثر في طول العالم وعرضه, حيث يثقون في المملكة, كدولة إسلامية تحرص على تطبيق أحكام الشريعة وتعطي الرؤية الشرعية حقها من العناية والاهتمام, وقبل أيام كنت في إحدى الدول العربية, فأخبرني أحد الإخوة هناك أن السنّة في بلاده, وأشقاء لهم في دول عربية, يرقبون ما تعلنه المملكة, ويأخذون به كل عام, وهكذا الحال في عدد من الأقليات مسلمة في دول غربية, وهذا - بغض النظر عن الموقف الشرعي منه - يدل على ضرورة محافظة المملكة على عمقها الشرعي في هذه المسألة, وغيرها. وقد يتساءل البعض, ويقول: إذن, لماذا نسير في أوقات الصلوات بالحساب, لا بالرؤية البصرية؟ والجواب: أن الشارع وإن أناط أوقات الصلوات بأشياء تدرك بالحس والمشاهدة, لكنه لم يحصر تحديد الوقت بالرؤية البصرية, بل أناطها بالزوال أو الغروب..؛ سواء عرف ذلك بالرؤية أو بالحساب, لكنه حين أناط وقت دخول شهر الصوم بطلوع الهلال, فإنه حصر آلة التحديد بالتحري, والرؤية, حيث قال: (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته) فحصر التحري برؤية الهلال بصرياً, وهذا لحكم كثيرة, منها عنصر المفاجأة الذي أشرت إليه سلفا, والله تعإلى أعلم, وأحكم.