تتفاخر الأمم والشعوب بمدى التنوع والتباين والاختلاف الذي يُميز مجتمعاتها, وتعتبر ذلك التنوع ثراء وتناغما وتكاملا, بينما على العكس تماماً يحدث في المجتمعات "العالمثالثية", وخصوصاً المجتمعات العربية التي تُفضل النمط الواحد والصوت الواحد والفكر الواحد. ولعل الأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة جداً, وليت الأمر يقتصر على طبقات المجتمع العليا والنخب وأصحاب القرار, بل إنه وللأسف الشديد يتمظهر وبشكل واضح في فكر وسلوك ومزاج الإنسان البسيط, هذا الإنسان الذي يُشكل غالبية المنظومة الإنسانية لتلك المجتمعات العربية. لقد استطاعت المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الشرقية أن تكسر "تابوهات" اللون والعرق والجنس والدين والمذهب واللغة وتستثمر كل ذلك التنوع والاختلاف كوقود حيوي يُحرك عجلة التنمية والتطور والإبداع في شتى المجالات. وحتى لا أبدو خيالياً أو مثالياً أو منظراً أضع ثلاثة نماذج رائعة انتقيتها بعناية وتنوع ما دمنا نتحدث عن التنوع المجتمعي لأدعم فكرة هذا المقال. أمريكا وسويسرا وماليزيا, وهي دول متقدمة ومتطورة وتنعم باستقرار وطني وسلم مجتمعي, ولا أظن أن هناك من يختلف على ذلك. فأمريكا وطن حديث نسبياً, إذ لم يحصل على استقلاله من بريطانيا إلا في عام 1776م, وتوحدت ولاياته بعد حروب طاحنة وصراعات طويلة. وهو وطن يتشكل من كل الأعراق والقوميات والأديان والطوائف والثقافات في مشهد بانورامي لم تعهده الحضارات القديمة أسس لمبدأ التعايش المجتمعي المتنوع والذي أصبح فيما بعد أحد الأسباب الرئيسية لتطور المجتمعات الحديثة. لقد انصهرت وانسجمت وتنازلت كل تلك الأطراف المختلفة والقادمة من كل بقاع الدنيا بثقافاتها وعاداتها وسلوكياتها ولغاتها ومقدساتها في كيان واحد هو الولاياتالمتحدةالأمريكية كجمهورية دستورية فيدرالية, وبفضل ذلك التوحد والاندماج المجتمعي أصبحت من مجرد أرض للمهاجرين المغامرين الطامحين للثراء والحياة الجديدة لتكون القطب الأوحد تقريباً والمهيمن على كل تفاصيل الكرة الأرضية وما حولها. أما سويسرا فهي بلد يقع في قلب أوروبا, ويُعد من أغنى وأجمل دول العالم, وقد حصلت "زيورخ" وهي أكبر مدينة سويسرية على لقب أفضل مدينة للتعايش المجتمعي في العالم لثمانية أعوام على التوالي. وتحتل سويسرا المركز الأول في أوروبا من حيث أكبر عدد للطلاب الأجانب, وثاني دولة في العالم بالنسبة لإجمالي عدد الطلاب في البلاد, كما حصل مبدعوها على أكبر عدد من جوائز "نوبل" نسبة إلى عدد السكان طبعاً, وتحتل جامعتها العريقة "جامعة زيوريخ" المرتبة الثالثة في تصنيف أفضل جامعات أوروبا, كما تعتبر "جامعة بازل" السويسرية التي أنشئت قبل أكثر من خمسة قرون ونصف من أقدم جامعات العالم. يوجد في سويسرا أربع لغات رسمية هي الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية وهي لغة لاتينية قديمة. سويسرا بلد علماني كما ينص دستورها, ولكن المسيحية بمذهبيها البروتستانتي والكاثوليكي يُدين بها معظم السكان, ثم يأتي الإسلام بمذاهبه المختلفة, واليهودية والبوذية والهندوسية وغيرها من الديانات والمعتقدات. لقد استطاع السويسريون أن يجعلوا من ذلك التنوع والاختلاف مصدراً حقيقياً وقوياً للتمدن الإنساني والتطور الحضاري. وكان لابد من مثال من العالم الإسلامي حتى لا يعتقد البعض بأن الأمر يكمن في الجينات البشرية التي تنتجها المجتمعات الغربية. ماليزيا وهي دولة إسلامية في الجنوب الشرقي من قارة آسيا, وهي بلد ملكي دستوري فيدرالي وبرلماني ديموقراطي, وتتكون من عدة أعراق وقوميات وأجناس كالملايو وهم السكان الأصليون, والحضارم الذين أدخلوا الإسلام لماليزيا, والصينيين والهنود والعديد من الجنسيات. وتكثر الديانات والمذاهب والمعتقدات والثقافات في ماليزيا, هذا البلد الذي يُطلق عليه النمر الآسيوي. كل ذلك الاختلاف والتنوع في كل تلك التفاصيل المهمة في حياة الماليزيين لم يقف أمام تقدمهم وتطورهم, فبعد أن كانت ماليزيا قبل ثلاثين عاماً تعتمد فقط على الزراعة ولم تكن بالكاد تُعرف, أصبحت من أهم الاقتصادات المتطورة والمذهلة في العالم. تلك الدول الثلاث وغيرها ليست أفلاطونية, ولكنها أيضاً تُعاني من بعض الصعوبات والأزمات نتيجة لتنوع تركيبتها السكانية, ولكنها وهنا الفرق بيننا وبينهم لم تدع تلك الفروقات تُعرقل نموها وتطورها, بل على العكس تماماً فقد عرفت كيف تستفيد من كل تلك الاختلافات والتنوعات التي تُميز فئاتها المتعددة لتحجز لها مكاناً متقدماً بين الدول الكبرى, ولكن ذلك لم يحدث إلا بعد أن أرست مبادئ العدل والمساواة والحرية والديموقراطية بين فئاتها المختلفة. بعد هذه المقدمة الطويلة أعود مرة أخرى للمجتمعات العربية, وتحديداً هذه المرة للمجتمع السعودي, هذا المجتمع الذي يتشكل من ثقافات وقوميات وقبائل ومذاهب, هذا طبعاً إذا أضفنا له أكثر من 7 ملايين وافد أجنبي وعربي جاءت بهم الأحلام والآمال لهذه الأرض الغنية, تصحبهم عاداتهم وثقافاتهم ودياناتهم وسلوكياتهم ولغاتهم, لذا سنجد أن المجتمع السعودي بمواطنيه ومقيميه يكتظ بمصادر وألوان التنوع والتباين. السؤال هنا: هل استفاد المجتمع السعودي من كل ذلك التنوع والتباين؟ سؤال لا يحتاج إلى إجابة! لقد طوت تلك المجتمعات المتحضرة صفحات التمايز والإقصاء والتهميش لأنها أدركت فداحة وخطورة ذلك, لقد تعلمت الدرس جيداً, أما نحن فمازلنا نعشق العزف على أوتار القبلية والعرقية والمذهبية والطبقية غير مدركين للخطر الذي يتهددنا نتيجة ذلك. يظل التباين و التنوع في الملامح والطباع والثقافات والمفاهيم والمذاهب بين أطياف المجتمع السعودي أمرا طبيعيا بل رائعا, فمن الخطأ والغباء الإصرار على نموذج سعودي واحد له نكهة واحدة يتمترس خلف "خصوصية" وهمية ومزعومة. الوطن يحتملنا جميعاً مهما تعددت قناعاتنا أو اختلفت توجهاتنا. نحن بحاجة لبناء جسور من الحب والمساواة والثقة والاحترام والاعتراف بالآخر, لا أن نُكرس ثقافة الكره والتمييز والازدراء والإلغاء والتهميش.