بينما كنت في أحد المقاهي الراقية بمدينة الخبر لاحظت أن شخصاً يراكم على طاولته مجموعة من الكتب والأوراق، فأبهجني منظره الذي يوحي بكائن محبٍ للقراءة والمطالعة، إلا أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق، فقد تبين لي بعد ساعات من التأمّل والملاحظة، بأنه مدرس (بارت تايم) اتخذ من طاولة المقهى فصلاً للدروس الخصوصية. خلال الساعات التي قضيتها هناك، لاحظت أن الطلاب يتناوبون على الجلوس قبالته الواحد إثر الآخر. شباب يبدو عليهم الثراء واللامبالاة. كما يتضح ذلك من خلال ملابسهم والسيارات التي تقلهم، مقابل أستاذ لديه الاستعداد النفسي والقدرة العصبية والعضلية على تدريس مختلف المواد العلمية والأدبية. لست في موقع الراثي أو المنتقد لاستراتيجية التربية والتعليم، فقد كفانا وزيرها عناء تشخيص المشكلة المزمنة للتعليم ومخرجاته بقوله (من خلال تجربتي في الوزارة، فإن مشكلتنا الحقيقية تقع في المعلم والبيئة المدرسية، ممثلة في المباني). وعليه، سأقف في خانة المتعاطف مع المعلّمين بعد هذا التصريح التبخيسي الحصة الواحدة لا تتعدى الساعة. بموجب مواعيد مضبوطة، تتخللها استراحات وجيزة. حيث كان المدرس يخرج لأداء الصلاة في المسجد المجاور ويعود ليستأنف مهمته وفق الجدول. فقد صادف وجودي تلك الحصة المدرسية منذ العصر إلى ما بعد صلاة العشاء. ولم يكن الطلاب حينها يتواجدون على بقية طاولات المقهى استعداداً للدرس، بل كانوا يدخلون إليه قبل أو بعد دقائق من الموعد، وكأنهم يؤدون مقابلة شخصية. الطلاب يتقاطرون ويتلقون حصصهم بمنتهى الهدوء بدون أن يثيروا أي ضجة وبدون أن ترتفع حدة المدارسة مع أستاذهم، وكأنهم بالفعل ندماء مقهى، يتقاسمون التعب والفرح والأخبار. وعوضاً عن احتساء الشاي المُعد في المنزل تمتلئ الطاولة بأكواب الكابوتشينو والإسبرسو والشاي بأصنافه ونكهاته، حيث تتجاوز فاتورة المشروبات والمأكولات المبلغ الذي يتقاضاه الأستاذ في الساعة. لا أدري من هو صاحب هذه الفكرة التي ترقى إلى مستوى الحيلة. أهو المدرس الخصوصي الذي سيتخفف من عبء الذهاب إلى بيت التلميذ، وتفادي زحام الشوارع، وتوفير وقت ومسافة الانتقال من بيت إلى آخر!؟ أم هو الطالب الذي سيتخلص من الرقابة والمساءلة الأبوية ويحظى بفرصة تلقي المعرفة في حميمية فضاء المقهى، وربما قيادة السيارة الفارهة، وكأنه في نزهة أو فسحة لا نهائية. ولست هنا في مقام التحذير من الدروس الخصوصية وويلاتها التي لم نكن نسمع عنها سابقاً إلا في الأفلام المصرية بعد أن صارت أمراً واقعاً في حياة كل أسرة في السعودية، فالملصقات التي تعلن عن وجود مدرس أو مدرّسة في كل مكان خير دليل وشاهد. كما أن طرق السيطرة وإذلال المعلم التي يجيدها الطالب وأهله أكثر من أن تُحصى. كذلك لست في موقع الراثي أو المنتقد لاستراتيجية التربية والتعليم، فقد كفانا وزيرها عناء تشخيص المشكلة المزمنة للتعليم ومخرجاته بقوله (من خلال تجربتي في الوزارة، فإن مشكلتنا الحقيقية تقع في المعلم والبيئة المدرسية، ممثلة في المباني). وعليه، سأقف في خانة المتعاطف مع المعلّمين بعد هذا التصريح التبخيسي. وهنا أتساءل عن فاعلية هذا الحل الذي تم تطبيقه بمنتهى السهولة، بدون أن تنتبه إليه الوزارة وتقوم بتعميمه، فالمعلّم العصري الجهبذ تم إيجاده وفق مقاييس المقاهي. أي ضمن بيئة مدرسية تسمح له بالتسردح على مقاعدها الوثيرة. وهذا هو المبنى الذي سيُنتج المعنى التربوي بالضرورة. وهو حل لا يُريح الوزارة ويُرضي التلميذ ويُغني المعلّم وحسب، بل يرفع عن الأبوين همّ المتابعة والقلق، فالولد في أيدٍ أمينة، وهو بصحبة أستاذ ناضج، ينادمه، ويلاعبه، ويضاحكه، ويعده بمذكرة صغيرة هي بمثابة الاسم السري المتواطأ عليه لأسئلة الامتحانات. يا له من حل. فالمقهى تحول إلى فصل دراسي على درجة من الرحابة والديمقراطية. وربما يتطور مع الأيام ويصبح أكاديمية. صحيح أن المقهى فضاء رحب ويحتمل أي شيء، إلا أن يكون بديلاً عن الفصل الدراسي. ولا يمكن بحال أن يحفظ للمعلّم هيبته وهو ينتظر وصول الطالب وليس العكس. كما أن نظر المعلّم إلى الطالب الغر بعين المتسول تأسره ولا تحرر عقل تلاميذه. فالتعليم الذي ينطلق من (جودة المعلم) على حد قول الوزير يستلزم الإعلاء من شأن المعلم وتدريبه، وليس تركه يتسكع في المقاهي. [email protected]