عادة ما تنشأ في معظم الأزمات فئة من المتعالِمين الذين يوهمون مَنْ حولهم أنهم يعرفون كل شيء، فيتحدثون في مجالسهم عن كل شيء، ويفتون في كل شيء، ويجيبون عن أكثر الأسئلة تعقيدا كما لو أنهم وحدهم مَنْ كُشفت عنهم الحجب، هذا النمط من الناس كانوا فيما مضى يمارسون نرجسيتهم تلك بهذا التظهير المبالغ فيه لشخصياتهم في إطار محيطهم الذي تصل إليه اصواتهم، كان هذا قبل انتشار الميديا الجديدة، وبالتالي فإن تأثيرهم في التضليل والتوهيم وتزوير الحقائق لم يكن كبيرا، ولا ظاهرا، لكنهم الآن وبعد أن وجدوا ضالتهم في هذه الميديا التي أصبحت طوع بنانهم، وطوع تصرفهم، وانتقل ملعبهم من صيوان آذان جلسائهم إلى ساحة تويتر، وفيسبوك، ورحابة ملعب الواتساب، باتوا أكثر خطورة، لأنهم هم مَنْ باتوا يشكلون الرأي العام، أولا: لسيادة قانون الحذر عند كثير من الجهات الرسمية في تفسير وجلاء بعض الأمور، من منطلق التروي، والحرص على عدم التسرع، وتاليا: لعدم قدرة الجهاز الرسمي حتى الآن على مواكبة تدفق المعلومات، وايضاح الحقائق بشفافية وتجرد، لقطع الطريق على كل مَنْ يحاول استغلال هذه الفجوة لسدها بأي تصورات، حتى إن كانت تفتقر للدقة والموضوعية، وللمعلومة اليقينية، لأن مستوى ثقافة المتلقي في الغالب الأعم أدنى من قدرته على الفرز، ثم لأن ضغط وفرة المعلومات، والرغبة في مطاردتها، والجري خلف نشوة السبق، من شأنه أن ينزع كل الفلاتر، هذا في حال وجود فلتر من أصله، فكيف هو الحال عندما يكون التعامل مع الشريحة الغالبة التي تتعامل مع هذه الميديا بفطرتها، ودون وجود أي أدوات فلترة؟ الأمر لا يتوقف على عامة الناس، حتى اولئك الأوسع ثقافة، الذين يعرفون دسائس الميديا على مر التاريخ، قد تنطلي عليهم بعض الحيل التي تبرع في صياغتها بعض التقارير التي تنتسب إلى مؤسسات عريقة، فيسلمون بها فقط لأنهم لا يجدون الوقت الكافي للرجوع إليها من مصادرها، والأخطر في الأمر أن هذه الميديا قد موهت ضمنيا ولا شعوريا المصداقية باسم الناقل أو المرسل. فالرسالة أو الفيديو أو المقالة التي تصلني من فلان من الناس، غالبا ما تأخذ في ذهني كمتلق مصداقيتها من حجم ثقتي في مرسلها، حتى إن أرسلها هو على سبيل الاطلاع أو الدعابة، لا على أساس موضوعيتها أو ثقته في مصدرها، وهذا غالبا ما يوهم الكثيرين ويدفعهم للقبول بمعلومات قد لا تستقيم حتى مع معطيات الواقع. ورغم أننا قد نجد شيئا من الطرافة في بعض ما يطرحه أولئك المتعالِمون، والذين يوحون لقرائهم كما لو أن (جاستا) مثلا مر من بين أصابعهم، وأنهم حضروا طبخته، ثم قد لا يجدون أي غضاضة في تقديم رؤيتهم لما ستؤول إليه الأمور بسيناريوهات قد لا تكون متاحة لأوباما نفسه في هذه المرحلة، فإن تدفق الاجتهادات والقراءات والتحليلات فيما يخص الشأن المحلي بالتحديد على أنها حقائق مطلقة، مع صمت الجهات ذات الصلة، سيؤدي إلى وجود رأي عام مزيف ومشوه وربما مُحتقن، ولا سبيل لمعالجة هذا الأمر إلا بالشفافية، واختصار المسافة بين المسؤول والمواطن وردمها بالحقائق.