بعد توقف النسخة الورقية لصحيفة (الاندبندنت) البريطانية تجددت التعليقات والتكهنات حول مستقبل الصحافة الورقية، والاحتفاء بهذا الموضوع عادة يأتي من المواقع الالكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي، وهذا طبيعي ومفهوم بحكم النزعة لتأكيد الذات، لكن غير المفهوم أن يأتي الاحتفاء بالخبر من الصحف الورقية التي يُفترض أن تكون أكثر إدراكا لحالها ولطبيعة التحولات في الصناعة. الذين أبرزوا خبر الاندبندنت تغافلوا، عن جهل أو عمد، خبر صدور صحيفة بريطانية ورقية جديدة قبل شهر وهي (نيو ديTheNew Day)، والتي وجدت الإقبال من يوم صدورها، لأنها جريدة اتجهت إلى القرّاء وقدمت الشكل الجديد للصحافة الجادة المستقلة التي تعتمد على التحليل العميق، وخرجت بشكل يخالف التبويب التقليدي للصحافة، وهذا يؤكد أن الصحافة ك (مهنة) باقية ولن تنقرض لانها ترتبط بالإنسان . الذي سوف يتغير طرق نقل وتوصيل المعلومة إلى الناس. الإنسان بطبعه يحتاج المعلومة كحاجته للرغيف والماء، يحتاج الذي يساعده على تفسيرها وتحليلها وربطها بحياته وإعطائها المعاني التي تساعده على فهم العالم حوله، ويحتاج الصحيفة التي تقدم له تفاعلات الحياة بالصورة التي تجعله يتعايش معها ويواجه تحدياتها. يحتاج الصحافة كما يحتاج أصدقاء الدائرة الأولى القريبين من روحه، والذين يذوب معهم في كل شؤونه الخاصة والعامة، أصدقاء البراءة والنقاء. هكذا تنجح الصحافة. هنا قوتها ودافع ازدهارها وتطورها. المهن التي ترتبط بالإنسان لا تموت. الذي ينتهي أو يتراجع أو يتغير هو الطرق والآليات التي عبرها تدار وتقدم بها المهن. التقدم التقني يساعد على تطور المهن وارتفاع جودتها وتوسع المستفيدين منها. وهذا بالضبط ما يحدث للصحافة. الآن الشركات العملاقة الخمس جوجل، فيس بوك، أبل، أمازون وميكروسوفت، كلها في سباق للاستحواذ على الجمهور، وهذه الشركات تتسابق إلى توسيع خدمات المحتوى عبر إنتاج الأخبار والمقالات، وهذا عمل الصحافة، أي أن الشركات الرقمية لم تأت بجديد. هي تطور مهنة إنتاج المحتوى. لذا الصحافة أكبر مستفيد من هذا التطور لان بيدها الجانب المهم الذي تفتقده الجرائد والوسائط الرقمية وهو: (المصداقية)، فهذه مازالت عامل الجاذبية الأول للصحافة ومصدر قوتها. تطور علم المعلومات وتقدم العلوم في القرن الجديد قاد البشرية إلى حقبة الاقتصاد القائم على صناعة المعرفة، ووسائل الإعلام بحكم أنها منتجة للمعرفة تأتي في مقدمة الكاسبين من ثورة المعلومات وصناعة المعرفة. ما أثر على الصحافة في السنوات الماضية هو تأخرها في استيعاب حقائق الثورة الرقمية رغم أن الصحافة أول من دعا للاستفادة من هذه الثورة وحث الحكومات والمستثمرين على الاهتمام بها والاستفادة منها، والمفارقة أن القائمين على الصحف لم يستثمروا في صناعتهم لأنهم فيما يبدو لم يطلعوا على ما ينشر في صحفهم. وهنا كانت (الفرصة الضائعة)، ولا يقتل أي اقتصاد أو صناعة سوى ضياع الفرصة وعدم اقتناصها في لحظتها، لأن استعادتها مكلفة جدا، وهذا نشاهده في اقتصادنا الوطني عبر تأخر الاستثمار في قطاعي السياحة والطيران المدني. بعض الناشرين في أوروبا وأمريكا أدركوا خطورة الفرصة الضائعة، والصحف التي خرجت من (وهم موت الورق) وعملت بمهنية واحترافية عالية حيث أعادت اختراع ذاتها عبر نموذج تجاري جديد وذهنية إيجابية منفتحة على المستقبل، لذا تتطور مخرجاتها وتنمو أرباحها، والثورة المعرفية سوف تفتح أمام الصحافة فرصا ذهبية للاستثمار، المهم الادارة والقيادة المحترفة التي تعرف ماذا تفعل وتتطلع إلى المستقبل. لقد شهدنا في السنوات العشر الماضية تراجع العديد من المؤسسات الإعلامية العملاقة، وأصبحت الآن قزما في قيمتها السوقية وصافي أرباحها أمام شركة مثل جوجل. الذي قلب الأوضاع وأثر على الصحافة عوامل قيادية وإدارية. الجرائد والمجلات الكبرى التي وقفت أو تحولت الكترونية مشاكلها ادارية، إما بسبب ابتعاد الناشرين المؤسسين عنها وتحول ملكيتها، وهذا يؤثر على روح الإبداع والتطوير لان الملاك الجدد الذين لا يفهمون المهنة وتعقيداتها يطورون حالة ذهنية ونفسية حذرة من الاستثمار. ايضا تأثرت الصحف بسبب حالات الاندماج والاستحواذ عليها من قبل مجموعات تجارية كبرى. في الأزمة المالية العالمية الأخيرة عام 2008 تأثرت صحف كبرى عريقة بسبب خسائر مجموعاتها القابضة، فالخسائر اضطرت الملاك إلى خفض النفقات وتصفية الاستثمارات البعيدة عن نشاطهم في العقار والأسهم وغيرهما، والصحف أول الضحايا، لأنها بعيدة عن اهتمامات الملاك الجدد، ولا توجد (الحميمية) مع الاستثمار، وهناك حالات دراسية تم توثيقها. القريب من الصناعة والمطلع بعمق على جوانبها الفنية على قناعة بان الصحافة ربما هي في مقدمة المستفيدين من ثورة المعلومات، والوصفة السرية لذلك هي ضرورة تحول المؤسسات الإعلامية إلى بيئة حاضنة وراعية ومستثمرة في الإعلام الجديد، ومدركة عن قناعة ان (رأس المال البشري) هو الاستثمار الحقيقي الذي يحتاج الرعاية والاهتمام. الذي يقتل الصحافة الورقية هو مشاكلها الداخلية وتأخرها في التحول إلى الواقع الجديد. كذلك الذي يقضي عليها حقيقة هو الخلافات والصراعات بين الملاك، أو سوء الادارة وفسادها، وقد رأينا كيف انهارت شركات عملاقة في صناعة المعلومات بسبب الادارة، دائما فتش عن الادارة والقيادة خلف كل تراجع أو انهيار للدول أو الشركات والمنظمات، وحتى البقالات والمخابز!