لم تكن الأستاذة / أديث أولرد تعلم أن كلمتين فقط جاءتا في مجرى حديث حماتها عن أبنائها ستكون كفيلةً بتغيير مجرى حياتها كلها وبشكل جذري!! تقول أديث: بينما كانت حماتي تتكلم عن أبنائها وكيف درجت على تنشئتهم، إذ قالت في معرض حديثها: ومهما يكن من أمرٍ، فقد كنتُ أصرُّ دائماً على أن ينطلق أولادي كلٌّ على سجيته ويتمشوا مع طبيعتهم المعقولة!! إنَّ كلمة "على سجيتهم" هي التي لفتت نظري وأعادتني إلى الوراء، إذ كنتُ على سجيةٍ هي غير السجية التي كنتُ أطلبها وأتبعها، وبين يومٍ وليلة انقلبت حياتي حين أطلقتُ سجيتي على راحتها، جرَّبتُ دراسة شخصيتي بنفسي لأتعرَّف إلى نواحي القوة والضعف فيها، ثم رحتُ أقهر العادات الرهيبة التي لا زمتني منذ بداية نشأتي، بدَّلتُ طريقة اختيار ملابسي إلى ما يلائمني، ومن الموضة ما يُناسبني، وجددتُ دماء صديقاتي فسعيتُ لاكتسابِ صداقاتٍ جديدةٍ، والتحقتُ بجمعيةٍ نسائيةٍ صغيرةٍ في بادئ الأمر و..، و..، و..، وها أنا اليوم ولله الحمد أتمتعُ بصحةٍ جيدةٍ مع سعادةٍ لم أحلم بها من قبل، وإلى اليوم لم أزل أعملُ بموجب ما قالته حماتي عن أبنائها، وبدوري أوجِّه أبنائي قائلةً لهم: "مهما كان الأمر انطلقوا على سجيتكم وتكيَّفوا مع الأجواءِ التي تلائمكم"!!) انتهى. هذا ما فعلته أديث، فماذا نحن فاعلون؟!! أذكرُ منذ نعومة أظفارنا ونحن نعيش مجتمعاً محافظاً جداً، فقد كانت كلُّ البيوت التي تُحيط بنا تعيشُ بنفس النمط التفكيري التقليدي، فالبرنامج اليومي عند جارنا هو نفسه عندنا وعند الحي السابق واللاحق، ومفردات اللغة وثقافة التفكير هي نفسها، وكأن الكل قد تخرَّج من مدرسةٍ واحدةٍ وعلى يد معلمٍ واحدٍ!! لا يوجد هناك اختلاف كبير في نمط الحياة وكأننا في معسكرٍ تحكمه قواعد وأنظمة عسكرية واحدة، والويل كل الويل لمن يخالفُ ويخرجُ عن المألوف إلى غير المألوف! أمَّا إذا سألنا أنفسنا أي قانون هذا الذي فُرِضَ علينا بسطوته الكاملة؟ لوجدناه يتلخص في كلمةٍ واحدة (الناس)! عباراتٌ مختلفةٌ لا تخلو من كلمة (الناس) في مضمونها الرقابي، ومن ذلك: انتبهوا، ماذا سيقول عنَّا الناس؟؟ لا تفعلوا هذا، كيف سينظر إلينا الناس؟ ادفع، واصرف، وأسرف ببذخ حتى لا يقول عنا الناس!! وإياك إياك أن تُشبِع طموحك في علمٍ وسفرٍ وطريقةِ حياةٍ قد لا تتوافقُ مع ما ألفوه في يومهم وأمسهم من حياةٍ تقليديةٍ تسير سيرَ السلحفاةِ ذات المائة عام!! حتى صرنا لا نرى إلا من خلال عيون الناس، ولا نسمع إلا من خلال آذانهم، ولا نفكر ونتكلم إلا من خلالِ عقولهم، ومع هذه القوانين الجائرة نسينا ذواتنا، ولعلنا اشتركنا مع (أديث) عندما تعرَّفت إلى نواحي القوة ومواطن الضعف فيها حتى تُعزِّز الأولى وتُعالج الأخرى وتقهر العادات الرهيبة، إلا أننا لم نسلك مسلكها الصحيح، فعندما تعرَّفنا على مواطن ضعفنا أصبح البعض منا رهين هذا الضعف وأبدعنا في جلد الذات وتقزيم شخصيتنا، وإذلال أنفسنا متناسين أننا بشر لا بد من وجود "الضعف والقصور" في تكويننا، ويأبى الله إلا أن يتفرَّدَ بالكمال، فنحن قد جُبِلنا على النقص لا الكمال، ومع هذا النقص نتكامل مع الآخرين! وعندما عرفنا نواحي قوتنا لم نقم على تعزيزها وتنميتها بما يفيدنا ويُفيد مجتمعاتنا ويبرز دورنا ورسالتنا في الحياة، بل جعلناها هشّةً ضعيفةً قابلةً للانكسار أمام أي نقدٍ هادمٍ قصد صاحبُهُ أن يُفقِدُنا الثقة بأنفسنا وهذا ما كان. القليل منَّا من استثمر نواحي قوته، والكثير منَّا انهزم، فضاعت من بين أيدينا فرصٌ كثيرةٌ كان من شأنها أن تجعلنا في وضعٍ معيشي وثقافي أفضل وأحسن، فهل آن الأوان أن نُدرك شيئاً مما فات؟! وهل من وقفةٍ مع النفس تجعلنا نعيش - من جديد - على سجيتنا دون أن تحطمنا نظرة حاقد ولمزة حاسد وسطوة مارد جعل من نفسه وصيَّاً علينا؟!! في الختام:- عندما عشنا على سجية الآخرين خسرنا الكثير الكثير، وعندما أصبح هذا الجيل يتصرف على سجيته أنكرنا عليه الكثير الكثير!!.