كان ذلك قبل سنوات ليست قليلة.. لقيتُه دون ترتيب مسبق، تحاورنا ووصل بنا الحديث إلى خلاف بينه وبين بعض أقرب أقاربه. فذكر تجاوزا منهم حسب قوله، فذكرتُ له عُذرا ممكنا جدا رجاء أن يُحسن الظن، فأخرج حافظة نقوده، وعَمِدَ إلى جيب صغير فيها؛ فأخرج منه ورقة مطوية. نَشَرَها فإذا هو قد رسم فيها ما يشبه الجدول، فيه: بتاريخ كذا قال فلان كذا، وفي بيت فلان يوم كذا ذكر فلان كذا... الخ! إن هذه الحالة البائسة التي وصل إليها جليسي قد لا تتكرر كثيرا، لكنّ مَن «يحتفظون» بالإساءات والتجاوزات والمظالم كما يحتفظ الأسوياء بأبهج اللحظات وأَعْذب الذكريات ليسوا قِلّة، بل هم كثيرون! أتحسب أنك باحتفاظك بسيئ المواقف، وأي قول أو فعل خدش شعورك يوما تضر غير نفسك؟! إن من تَعُدُّه عَدوّا لن تضره بشيء إذا دنّستَ نفسك بسيئ الذكريات. إن هَمّ وغَمّ ساعة لا يكاد يعدله شيء، فكيف بمن يسير في طريق الحياة الطويل وهو يُنهِك قوّة نفسه، ويشغل فراغ باله بما يُحزن ويفزع ويجلب المرارة، ثم يرى أنه يُحسن صنعا، أو ينتصر لنفسه التي جمع لها -باختياره الحقد على التجاوز- أنواعاً من العذاب والأم! لماذا نختار أن ننظف بيوتنا- رغم سعتها- من المخلّفات والفضلات كل يوم على مرة أو مرات، ولا ننظف قلوبنا من المخلفات الضارة رغم صغرها، وضيقها بذلك إلى الغاية، رغم أن وجود تلك المخلفات لا خير فيه، ولا نفع يُرجى منه! لقد صدق بعض السّلف، إذ قال: «من أوتي صدراً سليماً لإخوانه وأهله وأحبابه فقد تعجّل شيئًا مِن نعيم الجنة». يشير إلى قوله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ). ما سبق يكشف عن إحدى صُوَر عنايتنا بالظاهر تعاهدا وتنظيفا، وغفلة كثير منا عن الباطن، بل إصراره على بقاء الباطن ملوّثا. وهنا صورة أخرى قلَّ مَن يُصرّح بها، وهو أن البعض يقول: أخشى أن أنسى فأسامِح، وأنا لا أريد أن أسامِح أو أتسامح! هذا الشطط في الخصومة غريب، لأنه لم يكتفِ بالعداوة، والحقد والغلّ، بل أصبح يحوطها ويتنبه لِمَا قد يزيلها أو يضعفها. وما علم أنه بذلك يجعل صدره يُنتن من تجميع الفضلات الضارة عبر الأيام بل ربما السنوات، وهذا لا يؤثّر معنويا فحسب، بل حسيا أيضا إذ إن هذا الفساد في القلوب يجلب دون شك أمراضاً للجسد ووَهْنَا وأنواعا من السوء فعند البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). ولذا فلا عجب إن وجدت أغلب الأطباء في عامة التخصصات يربطون بين حالة نفسك تسامحا وحقدا، ضغطا واتساعا، وبين كثير من الأمراض، فإما أن يقررون أنَّ إفساد النفس بالكراهية والحقد هو سبب المرض بإذن الله، أو هو سبب تفاقمه، أو عُسر علاجه. ومن تأمّل في ذلك وجده يسري حتى على سيئ العادات كالتدخين والإفراط في تناول المنبهات والطعام.. الخ. وأختم بأصدق قول، وهو قوله عليه الصلاة والسلام :(لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) رواه البخاري.