تتكرر إشكالية الاختلاف في إثبات ولادة الهلال للصيام والعيدين بالذات وتثير تلك الإشكالية تساؤلات وجدلا طويلا يوجد فرقة حول مسألة لها محوريتها في حياة الناس مع أن الاتفاق بشأنها بسيط ولا يستدعي هذه التوترات التي تحدث جراء اختلاف ثبوت الرؤية بين الأقطار الإسلامية أو التعلل بها. إن الاختلاف حول هذا الموضوع والتعقيدات التي حيكت حوله أبعد ما تكون عن جوهر ومضمون حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته "، بل وأبعد ما يكون عن التمسك بالتفسير اللفظي للرؤية بالعين المجردة في زمن استطاع العلم أن يسبر الكون ويسبر آفاق الفضاء ومجراته. وهنا تتبين الحاجة إلى إعمال العقل والمنطق حول مسألة تشتمل على جوانب عديدة لا تعتبر السياسة بمنأى عنها، ما استدعى إطلاق تسمية الهلال السياسي عليها في عقود مضت. فدولة تبدأ رمضان بخلاف جارتها لنزعة المخالفة التي يتبناها رئيسها، ودولة تثبت هلال رمضان عندها تبعا لحال علاقاتها مع جارتها، بل نجد طائفة تثبت رؤية الهلال في دولة واحدة تخالفها طائفة أخرى في البلد نفسه. والأعجب أن تتفق رؤية هلال أول رمضان أو نهايته بين دولة في أقصى الشرق وأخرى في أقصى الغرب في حين لا تثبت رؤيته أي دولة بينهما؟ وكل ذلك مناقض للعلم والعقل الذي كرم الله به الإنسان؟ إن الرؤية في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانت تثبت بالعين المجردة لتعذر الوسائل الأخرى ، لكن هذا لا يعني أن نتمسك بتلك الطريقة رغم ما يشوبها في العصر الحاضر من تعقيدات طبيعية وسياسية ، في الوقت الذي تطورت وتعددت فيه وسائل وأدوات إثبات ولادة الهلال خاصة الحساب الفلكي الذي لا يقل يقيناً عن شاهد العين المجردة إن لم نقل أشد تأكيداً خاصة إذا أخذ في الاعتبار أن دوافع بعض شهود الأهلة قد تكون مالية للحصول على المكافآت التي ترصد لهم، مع العلم بأن العالم الفلكي أو مجموعة منهم يستطيعون الشهادة بولادة الهلال في الوقت المعلوم أمام المحكمة الشرعية إن لزم الأمر. إن الإصرار على التمسك برؤية العين المجردة للشاهد على ولادة الأهلة مقابل التقنيات المتوافرة في المراصد والحساب الفلكي يشبه حال من يصّر على امتطاء الدواب ويرفض ركوب السيارة أو الطائرة في سفر لأداء مناسك الحج أو العمرة ؟ مع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : "أنتم أعلم بأمور دنياكم " . إن الرؤية لا تُمثل في حد ذاتها شعيرة تعبدية وإنما علامة على دخول الشهر وارتباط ذلك ببعض العبادات كصيام رمضان أو حلول العيد (أو الأشهر الحرم) لا يعني أن الرؤية عبادة في ذاتها، فجوهر الأمر هو صيام الشهر أو إقامة شعائر العيدين، وليس من المنطق أو الحكمة الوقوف عند موضوع الرؤية أكثر مما ينبغي. فهل يعقل أننا - وبعد أكثر من أربعة عشر قرناً وفي ظل التطور العلمي والتقني الهائل في كافة مجريات حياتنا - أن نستمر في إثبات رؤية الهلال بالطرق التقليدية في حين توفرت وسائل أفضل وأكثر دقة تحقق الهدف والغاية نفسها. إن البساطة والتيسير في قصد المشرع ظاهرة من بقية الحديث النبوي المذكور وهي : "فإن غُم عليكم فأكملوا عدة الشهر "، وهذا ما يستدعي استلهام الغاية المتمثلة في العبادة والوسيلة المتمثلة بالرؤية بالعين المجردة المتاحة في ذلك الزمان، ولا شك في أنه لو تيسرت وسائل أفضل في عصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكان المنطق الأخذ بها. فالإسلام لا يتعارض مع العلم النافع أو يقف أمامه، وكما قبلنا الحساب في تحديد أوقات الصلاة بالأساليب العلمية كان جديرا بنا أن نقر بصلاحيته في إثبات ولادة الهلال. إن الحديث عن هذا الأمر كأنموذج لا يقصره على هذا الموضوع فحسب، وإنما يمتد إلى العديد من قضايا وأمور الإسلام والمسلمين الميسرة في الدين، لكن البعض يحرص على تعقيدها وإثباتها قضايا خلافية تعمل على تأجيج االصراعات والفتن وما أكثرها ليس فقط بين المسلمين وإنما أحيانا حتى في دواخلنا كأفراد. الباحث والمستشار بمركز علوم القرآن والسنة