مع نهاية العطلة الصيفية وبداية الموسم الدراسي ازدحمت مطاراتنا ومنافذ حدودنا بالعائدين من رحلات الصيف. وقد عاد كل أولئك من أوروبا وأمريكا وشرق آسيا وما تبقى صالحاً للسياحة من العالم العربي وهم في حالة من الامتلاء بمتعة ما شاهدوه هناك. ولا أشك أبداً أن أول خطوة داخل الوطن الذي يُفترض أن يكون حاضناً ورحيماً بهم ستنسيهم بهجة السفر، وستنطلق من صدورهم آهة الحسرة على انعدام أي شكل من أشكال الترفيه أو الاستمتاع الذي ذاقوه هناك. ليس الحر وحده أو لهيب الصيف هو ما يجعل أولئك يهربون من وطن يحبونه ويحلمون بغدٍ أفضل له. فهم في حالة استعداد للفرار مع أول فرصة أو إجازة، لأنهم يبحثون عما يليق بآدميتهم وينمي إحساسهم بالوجود من أساليب العيش الحديثة التي تتجاوب مع إنسانيتهم وتُنسيهم مرارة ما يعيشونه من بؤس يومي. ولذلك يتفننون في ابتكار الأعذار والوسائل للسفر والاستمتاع بمنجزات الآخر. حيث يبدو المنفذ الحدودي هو أقرب نقطة إلى العالم الجديد. لا ندري لماذا يخطط حملة الشهادات العليا الذين يقبضون على مفاصل التنمية والسياحة لأن نكون بلداً بلا مباهج، ولا تنظيم، ولا ثقافة. وليست لدينا أي فكرة عن المغزى من وراء إصرارهم على أن نكون فضاءً طارداً وخاوياً. فقد صارت بلادنا فارغة من كل إمكانيات الفرح ومسرات الحياة الاجتماعية. وبتنا شعباً متطفلاً على ما يبتدعه الآخرون للترفيه عن أنفسهم أولاً، ثم إفراغ جيوبنا ضمن ما يسمونه بصناعة السياحة التي لا نعرف شيئاً من أبجدياتها. سيعود كل أولئك ويتبادلون الهدايا والأحاديث والذكريات عن بلدان كثيرة زاروها واستمتعوا بطقسها البديع، وحسن تنظيمها العمراني، وفتنة مقاهيها ومطاعمها، وزين حدائقها، ودقة ونظافة نظام مواصلاتها. بمعنى أنهم سيتحدثون عن عالم آخر نجهله هنا ولا نعيش شيئاً منه، وكأن كل تلك العقود التي مرت بثرواتها الهائلة لم تسمح لنا بعمل أي شيء يسهل حياتنا ويجملها. العالم كل العالم هو مجرد حديقة خلفية لنا. وما دامت جيوبنا ممتلئة بالمال فلا يوجد هناك ما يستدعي أن نبني وطناً جميلاً يعكس ذوقنا وإرادتنا ورغبتنا للعيش الخلاق والمختلف. حتى من لا يمتلك ما يكفي لتسديد إيجار بيته يستدين ليسافر، ويعود محملاً بذكريات ومشاهد وأحاسيس محرضة على الحياة لا يمكن أن يشعر بها ما دام هنا. بعد انتهاء الموسم سنطالع إحصاءات الفارين من بؤس برامج الصيف السياحية الساذجة. وسنقرأ الأرقام الفلكية لأعدادهم ووجهات سفرهم ومصروفاتهم، وسنتندر على حالنا وقلة حيلتنا، لكننا لن نفعل أي شيء لنبني وطناً صالحاً للعيش على مدار السنة. سنجرف البساتين التي يفترض أن تتحول إلى متنزهات لنحيلها إلى مخططات عقارية وأراض بيضاء. سنهدم كل أثر تاريخي وحضاري لنبني مولاً تجارياً. سنردم البحر بلا هوادة ولا رحمة لنبني أبراجاً سكنية شائهة ومشوهة. أهذا هو ما نجيده بالفعل!؟ أي أن نخرب أجمل ما عندنا من إمكانيات طبيعية وأثرية. وأن نزرع في إنساننا السلبية واليأس من إمكانية تجميل مكانه وحياته. فهذه الأرض، حسب منطق المخربين، هي مجرد فرص استثمارية ولن تكون بأي حال مكاناً يليق بتطلعاتنا الجمالية أو حتى بشكل استهلاكنا لثرواتنا، فنحن أعجز من أن نؤثث بيتاً لراحتنا ومتعتنا. إن منظر الحقائب المكدسة في المنافذ الحدودية، المكتنزة بالملابس والهدايا والذكريات والوعود والتحف والأدوات الاستعمالية الحديثة، كلها تقول: إن هؤلاء قد عادوا من عالم آخر أكثر جمالاً وتحضراً. أما الوجوه المستبشرة التي تتغير سحنتها بمجرد الدخول إلى بوابة الوطن فتقول: إنها بصدد العودة إلى زمن متخثر. وكأن عقارب الساعة تتراجع بهم إلى الوراء. *ناقد