شكّل تدخل مجلس الوزراء، لمواجهة ظاهرة نفوق الأسماك في مياه الخليج العربي بإقرار ملامح خطة تعتمد على شجر المانجروف، انتصاراً بيئياً وطنياً بامتياز.. خاصة بعد توالي الظواهر البيئية السلبية التي شهدتها شواطئ المملكة خلال السنوات الأخيرة، وآخرها مشكلة نفوق أسماك جماعيّ في أحد شواطئ جزيرة تاروت. الانتصار البيئي أعاد الاعتبار لشجر المانجروف الذي يُعدّ واحداً من أهم الاحتياجات البيئية الطبيعية في جميع شواطئ العالم، وتبذل الحكومات مليارات الدولارات لحمايته احتراماً لارتباطه بدورة الحياة الطبيعية في البحار، وكونه جزءاً لا يمكن التساهل معه في تنمية الحياة الفطرية، سواء تلك المتصلة بالكائنات البحرية، أو الطيور المهاجرة، فضلاً عن كونه حاجز أمن مهما في وجه التيارات البحرية المباغتة. تدمير 90% وعلى امتداد السنوات العشرين الماضية؛ كانت النداءات تتوالى محذرة من مغبة تآكل غابات المانجروف في الخليج، إلا أن التمدّد العمراني لم يعبأ بالخسائر البيئية ولا بالنداءات المتواصلة، وراحت جرافات العقاريين تردم الشاطئ تلو الشاطئ وتقتل الغابة تلو الغابة في مشاريع تهيئة المخططات السكنية للتوسع، فكانت حصيلة ذلك آلافاً مؤلفة من الهكتارات الطبيعية دُفنت في الجبيل والخبر والقطيف وصفوى وتاروتوسيهات وعنك والدمام. ووصل الخطر ذروته بفقدان شواطئ المملكة على الخليج العربي قرابة 90% من غابات المانجروف، طبقاً لتقرير نشرته شركة أرامكو السعودية، في نشرتها "القافلة الأسبوعية"، في يونيو الماضي، في سياق إعلانها عن خطة استزراع هذا النوع من الشجر في شواطئ المملكة قوامها مليون و200 ألف شجرة، خلال 4 أعوام. بشارة بيئية ومن الطبيعي أن يلقي تدخل مجلس الوزراء استبشاراً كبيراً لدى المعنيين البيئيين بالذات في المنطقة، وعلى رأسهم المتضررون من أعمال الردم التي طالت الشواطئ خلال العقود الماضية. وأكد نائب رئيس جمعية الصيادين في القطيف جعفر الصفواني ل "الوطن" أن قرار استزراع شجر المانجروف سوف يساعد على إنقاذ البيئة البحرية في الخليج العربي عموماً، وفي سواحل المملكة على وجه خاص. حاضن طبيعي المانجروف أو الشورى أو القُرم.. كلها تسميات للشجرة الدائمة الخضرة التي تنمو في مناطق ما بين المدِّ والجزر على السواحل البحرية، ويتراوح طولها بين متر إلى خمسة أمتار.. وهي تمثل رحماً لتوالد الكثير من الكائنات البحرية، حيث تمثل هذه الكائنات بدورها، حلقة من حلقات الدورة الحيوية في الشواطئ، وسلة غذائية متنوعة للأسماك والطيور، ومحمية بيئية ذات أهمية قصوى. وهناك أهمية خاصة لشجر المانجروف تخص الروبيان بالذات.. تكمن في دورة حياة الروبيان التي تبدأ اعتباراً من عملية طرح البيض بمعدل يتراوح بين نصف مليون إلى مليون بيضة، 80% منها تقريباً يتعرَّض للالتهام من قبل كائنات أخرى، وقد يبقى ما نسبته 20% في بعض الأحيان أو أكثر. ويبدأ الروبيان رحلته إلى شجر "القُرم"، ويمر بعدة أطوار، فبعد مرور 16 ساعة تفقس البيضة المخصبة، معطية طور "النيوبليس" الذي ينمو بدوره إلى طور "الزؤيا" في غضون 36 ساعة تقريبًا، ثم ينمو "الزؤيا" إلى طور "المايسس" بعد 5 أيام تقريبًا، وبعد مرور 3 أيام يكون "المايسس" قد نما إلى طور اليرقة المتقدمة بعمر يوم ثم بعمر يومين. وهكذا إلى أن تصل اليرقة المتقدمة بعمر 20 يومًا، وتصلُ في هذه الأثناء إلى شجر "القُرم"، ويطلق عليه اسم "اليافع" الذي ينمو إلى طور تحت الناضج، ثم إلى طور النضوج الكامل في غضون 4 إلى 5 أشهر.. وخلال هذه المدة الطويلة يقتات بين شجر "القرم" وبعدها يبدأ هجرة جديدة إلى المياه العميقة لإتمام النضوج الجنسي هناك، و يكون حجم الروبيان صغيرًا قبل هجرته. سلة غذاء وعلاوة على ذلك؛ يكون شجر المانجروف حاضناً آخر للأسماك التي تقترب من الشواطئ وتجد رزقها جاهزاً مما فقس ونما من بيوض الروبيان، وما بين المد والجزر تنتقل هذه الكائنات الصغيرة إلى داخل البحر ضمن "الهائمات البحرية" الداخلة في الدورة الغذائية للكائنات المتنوعة. لكن هذا الحاضن لا يبخل على الطيور المهاجرة أيضاً، فهي تحطّ أسراباً أسراباً في الشواطئ لتتزوّد من مخزون غذائي غني بما لذ وطاب.. ويتكثّف هذا المنتج الغذائي الطبيعي كلما تكثفت الغابات والتصقت بالبحر، وبعض الغابات المانجروفية تمتدّ مسافات طويلة داخل البحر أو داخل البر، وبهذا فإن موقعها يمثل، دائماً وأبداً، أهمية حيوية لا يمكن الغنى عنها لأيّ بيئة بحرية في العالم. يقاوم التلوث ولا تقتصر فوائد "القرم" كونه غذاء للكائنات البحرية، بل هناك فوائد أخرى له حيث يسهم في زيادة نسبة الأكسجين والتقليل من نسبة ثاني أكسيد الكربون في أجواء الشواطئ، وهو ما يساعد في تقليل ما يُعرف بظاهرة تسخُّن المناخ. ويتميز نبات القرم في المقدرة على امتصاص بعض الملوثات الكيميائية في البيئة التي تعيش فيها، بما في ذلك مقاومة التلوث النفطي.. كما تساعد على تثبيت التربة وحمايتها من الانجراف والتآكل. فضلاً عن ذلك يحقق زيادة في الرقعة الخضراء خاصة في ظلِّ الظروف الطبيعية الصحراوية، بجانب قدرته على امتصاص الأمواج العاتية.. وفي الوقت ذاته يمثل شجر القرم وبيئاته مواقع مناسبة للسياحة البيئية والترفيهية. غابات قليلة التآكل المستمر في غابات القرم في الخليج قلّص المساحات الخضراء، ويشير عضو جمعية الصيادين داوود آل سعيد إلى أنه لم تعد أشجار "المانجروف" موجودة إلا في أربع مناطق بسبب عمليات الردم، بعد أن كانت ذات كثافة عالية. وأضاف "توجد أشجار القرم حالياً في الساحل الشمالي لمدينة الدمام بجانب الميناء، كما توجد غابة من أشجار القرم في تاروت تمتدُّ من رأس الزور إلى أم حويسين خلف المنطقة الصناعية في حي الروضة، وتوجد غابة من القرم تمتدُّ من مخطط الزهراء بالعوامية ويسمى (قرم الإصيصة) الذي يمتدُّ إلى (قرم الخريص) بصفوى، أما الموقع الرابع فهو غابة تمتد من الخِري الغربي بصفوى وحتى (قُرم المغيبة)، وهناك قرم آخر في سيهات إلا أنه للأسف فَقَدَ فائدته بسبب عمليات الردم". أضرار مستمرة مناطق الأعشاب البحرية البعيدة عن الشاطئ شرق صفوى أعطت أكبر إنتاج للأسماك والروبيان، بحسب دراسة أعدها، سابقاً، معهد البحوث بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن لهذه الظروف أضحى خليج صفوى الأفضل إن لم يكن الوحيد الذي يلجأ إليه السمك والروبيان للتكاثر، وذلك لبكارة أرضه وشواطئه حيث لم يتعرض كغيره لتدخُّل الإنسان إلا في حالة واحدة، فبالرغم من أهمية هذا الخليج فإنه لم يسلم من عمليات الردم. يقول آل داوود "قبل 9 أعوام بدأت بلدية رأس تنورة بدفن جزء من ساحل رحيمة مما تسبب في الإضرار بقرم منطقة (القصَّار) وقرم (أبو زيد)، وكان الدفن بحجة توفير أراض لذوي الدخل المحدود لسكان رحيمة بالرغم من أن الأضرار تركزت في خليج صفوى"، وأضاف "وهو ما يعني تهديد البيئة وتهديد رزق آلاف العائلات المعتمدة على الصيد، كما يعني هجرة الأسماك والروبيان من آخر موطن لها في خليج تاروت وبالتالي تصبح هذه المناطق مستوردة للأسماك والروبيان بعد أن كانت تزخر بها على مدى مئات السنين، كما أن سعرها سيرتفع بدرجة كبيرة لقلتها هذا إن كان لها باقية". تتويج جديد يأتي تدخل مجلس الوزراء الأخير تتويجاً لقرارات سابقة أيضاً.. وحسب تصريح عضو المجلس البلدي في القطيف الدكتور رياض المصطفى إلى "الوطن" فإن هناك "قرارات عديدة تمنع الردم والتعدي على خليج تاروت، ومن ضمنها الأمر السامي رقم 1861/8 في 27 /8 /1404 القاضي بالموافقة على مرئيات اللجنة الوزارية المشكّلة لدراسة ردميات البحر في المنطقة الشرقية حيث رأت اللجنة أن يبقى خليج تاروت على وضعه الحالي دون ردم"، لكن الردم استمر، ويقول المصطفى "هناك أمر آخر برقم 982/ م وتاريخ 15 /9 /1419 تضمن في الفقرة الأولى أن الأصل منع الردم على الواجهات البحرية، كما توجد قرارات عديدة لمنع الردم، فأي موافقة من اللجنة الرباعية تتعارض مع ذلك يجب عدم الأخذ بها، فالأصل عدم الردم". تطوّع أرامكو من المؤكد أن الظروف الحالية باتت أكثر إيجابية لصالح البيئة في الخليج العربي عموماً، ويحفز الجهات التطوعية على الاستمرار في رعاية واستزراع هذه النبتة في الشواطئ، وبالذات تلك التي خسرت مساحات هائلة من الغابات الخضراء.. ويمكن الاستفادة من التجربة التي قدمتها شركة أرامكو السعودية للبيئة خلال السنوات الست الأخيرة، فقد عمدت إلى تنظيم أعمال تطوعية تزرع شجر المانجروف في شواطئ راس تنورة وتاروت، وجنّدت لذلك موظفين وعائلات موظفين ومتطوعين تبرعوا بوقتهم وجهدهم للتعبير عن احترام البيئة. ولكن السؤال الذي سوف يستمر بعد كل ذلك: هل سيحترم العقاريون البيئة ويتوقفون عن تشجيع التخطيط في المناطق البحرية..؟ يبقى السؤال قائماً، والمستقبل هو الكفيل بالإجابة.
