بعض النصوص قد تصيب القارئ ببعض الإرباك. ولا تقتصر هذه الصفة على النصوص التي قد لا تتوافق وذائقتنا، فأكثر ما تمثل هذه النصوص من إرباك هو موقف التحدي، خاصة إذا كان ذلك النص مفتوحاً، أو عابراً للأنواع، فلا هو بالقصة، ولا هو بالشعر، وبالتأكيد هو ليس رواية، أو مسرحية. وإذا تجاوزنا مسألة النوع، وأطلقت، أنا القارئ، الصفة التي أريد على هذا النص، فمعنى ذلك أن مغاليق النص قد بدأت تتفتق عن أسرارها، لكن النص يبقى مع ذلك مفتوحاً، ومن هنا يمكن للقارئ أن يفاجئ نفسه وقد داخله شيء من الإعجاب بما يقرأ. مثل هذه اللعبة يمارسها، فقط، كاتب عارف بما يكتب، وواثق أن نصه سيصل إلى عنوان القارئ المهتم حتى لو كان النص غفل من عنوان مفصل. هذا ما فعله الكاتب والشاعر والناقد أحمد بزون في كتابه (رقص على إصبع واحدة)، الذي احتوى على نصوص نثرية قصيرة، أخذت من الشعر الإيجاز والبلاغة والتخييل، وأهملت الشكل والموسيقى والإيقاع الخارجي. لكننا لا ندعي أنه اهتم بما يسمى "الموسيقى الداخلية"، فهي ادعاء نظري مازال في حاجة لإثبات عند مخترعي هذه المقولة، فالموسيقى الداخلية هي من خصائص اللغة العالية، وليست وصفة محددة يمكن لأي كان الإتيان بها، وصاحب الموهبة يوقع موسيقاه الداخلية في لغته التي يكتب بها، سواء كان المكتوب رسالة، أو قصيدة، أو رواية. أحمد بزون بريء من مثل هذ الادعاء، ولا يحتاجه أصلاً، كونه كتب نصه، جريئاً متدفقاً، ومضى ليشاهد معرضاً تشكيلياً، في إحدى زوايا بيروت، أو العالم العربي، تاركاً ما يمكن أن نقوله، أو تقوله كل أولئك النساء اللائي أحبهن في هذا الكتاب، ولعلها كانت امرأة واحدة، في صيغة جمع فيها كل قطع الذاكرة داخل إطار معتم داخل قاعة تفتقر إلى النور. شأن تلك اللوحة شأن كل (تابو) في حياتنا، وإذا لم يكن الشاعر يحفل بذلك التابو، فإنه أراد أن يقول ساعدني في الإضاءة على لوحتي تلك أيها القارئ: اتركي عقلك عند العتبة، وادخلي بلا ملائكة، قبل أن أُزرر الباب وأشعل الموسيقى، وتضحك زوايا السقف، فالجنون وحده هنا. 64. وفي تلك اللوحة، أيضاً، ما يراه السوريالي في لوحة المنام، وهو هنا أي إنسان يعاني من نعمة الأحلام التي تمزج الزمان والمكان في أضغاث لا تفسير لها في الواقع، حتى لو اجتهد المجتهدون: رأيت ما يرى النائم في كوابيس الليل، عباءة ذباب فوق جثتي، بحراً يموج بجيش أسود نحوي.. بحراً يطرد سمكه إلى الشاطئ، تمزقه مناقير صقور عملاقة. 77. ولعل النص المعنون ب"معدن يقطر في رأسي!" يشكل درة الكتاب في تدفقه وصدق عاطفته، وبتلك التناصات المتناثرة بين جمله وعباراته: أصحو على دمع يمسِّد قبة القلب.. على ملائكة تكشط السواد من صدري، وتزيل الرعود العالقة في حنجرتي، والرعش النابت في عروقي. 79. هنالك حسية عالية تطبع معظم نصوص الكتاب، تقترب أحياناً مما يدعوه بعضنا فحشاً، لكنها تجتمع في ما يبحث عنه الكاتب من صدق التعبير، بمعنى أن معظم الناس الراشدين في كل زمان ومكان، ومهما كانت أعمارهم، يشعرون بما يقوله بزون، لكن هيهات لكل هؤلاء أن يعبروا بمثل هذه الأناقة والمباشرة معاً عما يجمعهم بعالم المرأة بكل تلك الأسرار التي لا تبدأ ولا تنتهي: زرعتِ كفك اليسرى تحت قميصي.. وتركتِ حنجرتك زغاريد بكاء، إلى أن نزفت كل آلامك، وهدأ رأسك فوق صدري، فغفوتِ وغفوتُ.. إلى أن أزهر الشوقُ على ظهر نسمة باردة. 80. عبر أحمد بزون بإسراف بلاغي عن عالم قد يأخذه بعضهم نحو عالم إيروتيكي مباشرة، لكنه عالم حقيقي بكل بساطة، شعر الشاعر بأحقيته في أن يقوله دون سواه، وكان ذلك: ليشهدوا أنك مجنونة.. من يستطيع أن يُلبس الجنون قبعة إخفاء؟ ثم هل يترك الجنون قبعات على الرأس؟ هل يترك ستراً فوق جسد؟ 86. الكتاب صدر عن دار الانتشار العربي، بيروت، 2010. والشاعر أحمد بزون يشغل موقع رئيس القسم الثقافي في صحيفة السفير اللبنانية.