في صيرورة الحياة المتسارعة، وشديدة التغيّر، وفي وسط ضجيج الجموع، تنبعث على يدي فئة مطمئنة ٍراسخةِ اليقين والإيمان؛ قيادةٌ حكيمةٌ تُفكِّكُ عُرَى كل صخبٍ وضوضاء؛ تُرشد، تُطمئن، تُقود، تُلهم المتأرجحين في دروب الحياة اليومية وتبدلاتها، وتعيد ضبط إعداداتهم بما يتوافق والحياة الهادئة المطمئنة. إن في وجود تلك القيادة الحكيمة التي لاتنزلق إلى متاهات السائد العشوائي، مقاومةٌ ناضجةٌ راشدةٌ لهذا الاندفاع المحموم في خضم هذا الزخم الهادر من الحياة للجماهير السائرة دون وعي بالمآلات الكبرى، حتى لَيَكاد يَعْمَى البصرُ والبصيرة لدى تلك الجموع عن النظر والإدراك لعمق الأشياء، وكأنما عُمّيت عليهم حقائق الحياة، وعُمْق معانيها، إلى الحد الذي جعل الجميع يسير على الحافة بين احتمالات كثيرة آخرها الطمأنينة. - والسؤال هنا وفي ضوء قيمة القيادة وتأثيرها النوعي في إرشاد الجموع وتوجيههم عند مفترقات طرق الحياة وتحدياتها، ماهي حدود مسؤولية الفرد تجاه نفسه ومجتمعه؟ - وهل تختفي مسؤولية الفرد بمجرد تولي القادة لمهام ومسؤوليات القيادة وتوجيههم للجموع وإدارة الأحداث؟ إن القصد من طرح مثل هذه الأسئلة هو إطلاق الفكر للتأمل والتعلم من الحياة، ورفع درجة الاستعداد للوعي الشامل بالمسؤوليات العظمى للأفراد والمجتمعات في تحديد اتجاه البوصلة الحقيقي، والوعي بقيمة الحياة، وقيمة الفرد أولا في صناعة الوعي المجتمعي التراكمي، الذي يجعل كل من على سفينة الحياة مسؤولاً عن سلامة الرحلة وطمأنينتها، وليس الاتكاء على عاتق القيادات والاختباء خلف تواجدهم وتحملهم للمسؤولية. لاشك أننا كأفراد نتحمل مسؤولية أفعالنا وسلوكنا، لذا لابد من رفع درجة الوعي لدينا بما ندير ونفعل أو نقول في حياتنا حتى نحمي ذواتنا من الذوبان في الصخب والضجيج، أو الانغماس في صيرورة اليومي، وصولا إلى مساحة النور والوعي بقيمة الحياة للذات وللآخرين، والتقدير الحقيقي لتلك القيمة التي يعيشها كل واحد منا مرة واحدة، دون وجود أي فرصة للتعويض، أو إيقاف لحركة الزمن مهما كانت جرعة الوعي التي تعيد ترتيب الحاضر أو المستقبل، نعلم يقينا أنه لاتوجد أحداث محايدة في هذا العالم، فكل حدث لايبني فهو لاشك يهدم، وكل مصباح لايضيء فهو يشرعن دخول المزيد من الظلام، لأن الحياة بوصفتها الربانية هي معادلة الصواب فقط، وماعدا ذلك غثاء كغثاء السيل وكزبد البحر، يظهره الله للخلق اختباراً للإرادة الحرة لديهم، وحتى يميز الخبيث من الطيب، ويعَرِّف الناس الجمال والحسن- الذي يتفق وفطرة الناس التي فطر الناس عليها- من القبح والسوء الذي تنكره الطباع النقية، وترفضه وتأباه الأرواح السوية، لذا تتضاعف مسؤولية الأفراد الذاتية والتضامنية في الحراك الإيجابي الآمن الذي يثمر ويراكم الخير والإحسان، ويحد ويردع ويقلل الشر والعدوان. إننا ونحن نؤكد من قيمة الوعي الفردي فإننا ندعو كل من يملك إرادته الحرة أن يكون إيجابيا بالقدر الذي يتيح لكل واحد أن يكون واعيا بمحيطه وبيئته والعالم من حوله، مسهما في النمو لذاته وللآخرين، ومتفهما لحقوقه وواجباته، وكذلك حقوق الآخرين في العيش الآمن والنمو المتوازن في الحياة، لأن القاعدة الاجتماعية البسيطة تقول أنه كلما اتسعت مساحة الداعمين لقضايا الخير، كلما ارتفعت نسبة انتشاره وتزايدت فرص نجاحه، وتقلصت في نفس الوقت مساحة الشر وأهله. يقينا نعلم أنّ الحياة في مشهدها العظيم تقوم على التوازن بين قيادة حكيمة توجه برشد وتقود بمحبة، وبين فرد يدير نفسه بمسؤولية في هذا العصر القلق جدا، والذي تشتعل فيه نيران المواجهات في كل العالم، مما يجعل الحاجة ملحّة عند اشتداد الأزمات، ودفع الأثمان الكبرى، إلى أولئك الذين حملوا قنديل الأمل أفرادا وقيادات من أهل الحجى والعقل، من الصالحين المصلحين المطمئنين، الذين يبثون الأمل، ويلهمون اليائسين والمهمشين، ويعيدون رسم خارطة الطريق نحو الغايات العليا التي خلق الله من أجلها الخلق، حيث يغدو كل فعل وقول وتأمل وفكر لديهم، متماهيا لائقا بالإنسان الذي اصطفاه الله لحمل أمانته ورسالة الحياة السامية، وزَهّده في العابر المتهافت، وكأنما لايعنيه كل ذلك الفتات والتهافت، أو تلك الصيحات المتجمهرة حول أحداث لحظية لاتسمن ولاتغني. شكرا لكل الذين جعلوا من أنفسهم مرافئ للطمأنينة يأوي إليهم كل حائر قلق مشوش رجاء استعادة الروح والعقل، والعيش الآمن السعيد المتوازن، شكرا لتلك الثلّة الحكيمة الراشدة المرشدة، وشكرا لأولئك الذين تحمّلوا المسؤولية فحفظ الله بهم توازن الحياة والأحياء.