كلّ ما هو جميل في هذا العالم يأتي على مهل. الضوء لا ينفجر دفعةً واحدة، بل يتسلّل من بين أصابع الفجر كما لو أنه يتدرّب على البزوغ. والمطر لا يهبط صاخبًا، بل يختبر الأرض أولًا بقطرةٍ خجولة، ثم يغمرها بالحنين. كذلك الحياة... لا تُؤخذ قفزًا، ولا تُلتهم على عجل. إنها تؤكل حبةً حبة، خطوةً بعد خطوة، كعنقودٍ من المواقف والتجارب نلتقطه ببطءٍ كي لا تفلت لذته من بين أصابعنا. وهكذا، لا تأتي التحوّلات الكبرى دفعةً واحدة؛ فبالتكرار الهادئ الذي يبدّل الملامح دون ضجيج، يكمن سرّ العيش، ويلين الطريق تحت أقدام المثابرين. حين تفتح كتابًا نائمًا على الرفّ وتقرأ منه صفحة، فأنت تهزم الملل. حين تخرج لنزهةٍ قصيرة بعد أيامٍ من الكسل، فأنت تربح معركتك مع التراخي. حين تمد يدك لمن يحتاجها دون أن تنتظر الشكر، فأنت تنتصر على الأنانية. هذه الانتصارات الصغيرة لا تحدث ضجيجًا، لكنها تصنع الإنسان، فكلّ مجدٍ كبيرٍ كان يومًا فكرةً صغيرة لم يلتفت إليها أحد. وكل من تراهم في القمة بالتأكيد لم يهبطوا من السماء بل صعدوا درجة تلو أخرى. أكل العنب حبة حبة ليس دعوة للتأني فحسب بل فلسفة للعيش: أن تمنح كل لحظةٍ وقتها لتتفتّح، وكل تجربةٍ حقّها من التذوّق، أن تتصالح مع البطء كأنه فنّ من فنون البقاء. وحين نهدأ، لا لنراجع ما فات، بل لنتأمّل ما كنا نغفل عنه، ندرك أن الحياة لم تكن سباقًا، بل حوارًا بيننا وبين الوقت، وأن أجمل ما فيها لم يكن الوصول، بل تلك اللحظات التي عشناها ببطءٍ جميل، وتذوّقنا طعمها كما نتذوّق العنب... حبةً حبة.