ذكرت في مقالات سابقة أن أقسام اللغة العربية وآدابها في بعض الجامعات العربية أصبحت لا تخدم اللغة العربية بالشكل الصحيح، وبعض الدراسات الحديثة في أقسامها لم تسهم حقيقة في خدمة العربية أو تعزيز استعمالها، بل تسببت في إقصاء تراث اللغة العربية وتهميشه ومحاولة شيطنته من خلال ربطه بالتطرف والعنف، أو تصويره بأنه يضمر العنف داخل أنساقه الثقافية. قد يكون التضاد هنا غير مباشر وغير مقصود من خلال أخطاء منهجية فادحة يقع فيها الباحث ويشوه بها الموضوع المدروس دون أن يشعر. دعونا نقدم مشروع «الفوائت» الذي يهدف لاستدراك ما فات معاجم القدماء من ألفاظ بسبب النقص في المادة اللغوية كما يدعي أصحاب مشروع الفوائت. ومشروع الفوائت قام على أساس علمي غير متوازن، ويحمل أخطاء منهجية واضحة، وما يثير الاستغراب، كيف بباحثين ذوي خبرة طويلة أن يقعوا في فخ الأخطاء المنهجية. وهنا يتبادر لذهن القارئ السؤال البديهي التالي: أين يكمن الخطأ المنهجي البدائي في مشروع الفوائت، ونحن هنا نؤكد على بدائية هذا الخطأ المنهجي؟ يهدف مشروع الفوائت لتعويض المعاجم القديمة ك«لسان العرب» لابن منظور و«العين» للخليل بن أحمد ما فاتها من ألفاظ، لأنها ركزت على البيئة العراقية وأهملت بقية الثقافات العربية وبالتالي فإن مادتها ناقصة. وكما نعلم أن معجم العين -على سبيل المثال- معجم معياري وليس معجما تطوريا، وهنا نؤكد على الفروقات الجوهرية التي لم يراعها مشروع الفوائت بين المعجم التطوري والمعجم المعياري. الأول يعتمد المنهج المعياري في جمع مادته العلمية عكس المعجم التطوري الذي يعتمد المنهج الوصفي، وهنا يكمن الخطأ البدائي في مشروع الفوائت، فالفروق بين المنهجين المعياري والوصفي تعد معرفة أولية تقدم للطالب المستجد في مرحلة البكالوريوس، والخلط بين المنهجين خطأ بدائي يستغرب من أصحاب الخبرة في الدرس اللغوي. يحاول مشروع الفوائت استدراك ما فات على المعاجم المعيارية كمعجم العين من ألفاظ، وفي الوقت نفسه يعتبر هذه الألفاظ امتدادا تطوريا للغة العربية، وهنا يقع التناقض المنهجي لأنه لا يمكن الاستدراك على معجم معياري بأداة تطورية لأنهما ينتميان إلى نظامين معرفيين مختلفين، معاجم قديمة كمعجم العين أو لسان العرب لم تنشأ أساسا لتوثيق اللهجات أو رصد تطور دلالات ألفاظها، بل وضعت لتقعيد العربية كما استعملت في زمن الفصاحة، ويهدف إلى تثبيت اللغة وضبطها كما استقرت عند العرب الفصحاء، أي أنه يهدف لتوثيق العربية الفصحى في زمن الفصاحة، والخليل بنى معجمه على ما سمع من العرب الأقحاح قبل اختلاط الألسن والشعوب، ونحن نقصد العرب الذين نزل القرآن الكريم بلسانهم، وكل ما بعد ذلك الزمن أو خرج عن شروطه لا يدخل ضمن غايته أصلا، المعجم المعياري لا يهدف إلى توثيق كل استخدام لغوي -جزئي أو متغير- والخليل -على سبيل المثال- لم يجمع معجما تطوريا فلا يصح قياس مادته العلمية بالمنطق التطوري، فهذا يخرق الأساس الذي قامت عليه المعاجم المعيارية ويخلط بين التطور اللغوي والمعيار اللغوي، الفارق بين المنهجين كالفرق بين من يرصد اللغة ومن يضع معيار اللغة -وكلاهما مشروع- ولكن لا يجوز الخلط بينهما أو محاسبة أحدهما بمنطق الآخر. المعجم المعياري لا يدرج أي لفظ ما لم يثبت بالسماع والنقل ضمن زمان ومكان معينين بينما في المعجم التطوري يمكن إعادة بناء لفظة ما بناء على تطور دلالاتها ضمن سياق لهجات حديثة وفق آلية قياس مختلفة، فهو يجمع الألفاظ ويرصد التغير اللغوي الطارئ عليها عبر الزمان والمكان، والخلط بينهما أنتج تصورات غير دقيقة عن وظيفة المعجم المعياري -معجم العين مثلا- فكلا المعجمين ينتميان لمجالين مختلفين في الغايات والمصادر. إسقاط منظور التطور على مادة معيارية ثابتة يوهم بأن المعجم المعياري يبدو ناقصا بينما في الواقع هو يؤدي وظيفته بدقة، فالمعياري يهدف كما أسلفنا لتثبيت اللغة وضبطها لتكون مرجعا للاستعمال الفصيح وتعليمه، واستبعاد الألفاظ مبني على منهجية علمية تحدد الفصيح من غيره، وترك بعض الألفاظ وفق معايير المعجم المعياري لا يعني فواتها فالمنهج المعياري يترك بعض المفردات عامدا لعدم ثبوت فصاحتها بالنقل والسماع، وعدم إدراجها لا يعني نسيانها أو فواتها بل هو تطبيق صارم لمنهج صارم، فبعض الألفاظ موجودة في لهجات معينة وتستخدم على المستوى الشعبي لكنها غير فصيحة معياريا، والمعجم في هذه الحالة يتركها لأنه يركز على المستويات الفصيحة، فالفوات هنا فوات منهجي مقصود وفق معايير صارمة لا ترضخ للتحيزات القبائلية أو المناطقية، فهو كما أسلفنا غير معني بتتبع التغيرات اللغوية تاريخيا وجغرافيا. ما يسميه القائمون على مشروع «الفوائت» ليس بالضرورة فواتا فهو حقيقة استبعاد منهجي دقيق هدفه صون معيارية العربية الفصيحة، وهنا تكمن إشكالية هذا المشروع لأنه لم يحدد موقفه ومنهجه من المعاجم. هل هو معياري يستدرك ما فات على المعاجم المعيارية القديمة أو مشروع وصفي يسعى لتوثيق اللهجات العربية وتطور دلالات ألفاظها. خدمة المعجم العربي لا تكون بزيادة الألفاظ كيفما اتفق، بل بسلامة المنهج وتحديد هوية المشروع بدقة، هل هو تطوري يرصد تحولات الألفاظ وتطورها أو هو معياري يستهدف استكمال ما فات معاجم الأولين. فإن كان معياريا فعليه الالتزام بمنهج السماع والنقل والفصاحة الذي قامت عليه المعاجم الكبرى، فخدمة العربية لا تكون بالمزايدة على تراثها أو نفي كماله بل بفهمه فهما دقيقا والبناء عليه بما ينسجم مع غاياته العلمية.