حادثة ذي الخويصرة كانت النواة الأولى للتطرف والغلو في الإسلام؛ لأنها مثلت أول جرأة على مقام النبوة، وأول انحراف في فهم الدين، تلك الكلمة التي خرجت من فمه حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم: «اعدل يا محمد»، كانت طعنًا في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنكارًا على مقام النبوة بدعوى العدالة. ظنّ قائلها أنه يقيم العدل، فإذا به يطعن في عدالة من بعثه الله رحمةً للعالمين. ومن تلك الحادثة خرجت الفتنة وأول انحراف في فهم الدين، وولد الفكر الخارجي الذي حمل لواء التديّن بغير فهم، والغيرة على الدين بغير علم، لبّسوا الغلوّ لباس الدين، فخلطوا بين النص والهوى، وبين الحماس والجهل، فصار الدين عندهم صراعًا لا هداية. واستمر هذا الفكر في عصورٍ متتابعة حتى خرج أحفاد ذي الخويصرة وطعنوا في الصحابة رضي الله عنهم، الذين عايشوا الوحي وسمعوا التنزيل، فسالت الدماء بعد خروجهم على عثمان رضي الله عنه، فاتهموه بالظلم والكفر، ثم خرجوا على عليّ رضي الله عنه، ورفعوا السلاح في وجهه بشعارهم: «لا حكم إلا لله». كلمة حق، لكن كما قال علي رضي الله عنه: «أريد بها باطل». فالخوارج زعموا أنهم يدافعون عن دين الله، فرأوا في مخالفيهم كفارًا، وفي دمائهم حلالًا، وفي السيوف طريقًا إلى الإصلاح؛ لكنهم ما أصلحوا شيئًا، بل أفسدوا على الأمة وحدتها وطمأنينتها، وسفكوا دماء المسلمين تحت شعاراتٍ ظاهرها الدين وباطنها الغلو والجهل. فهم أول من خالف أمر الله في الجماعة والرحمة والطاعة، وأول من بدّل الدعوة إلى الله بدعوةٍ إلى القتال، واستباحوا دماء المسلمين بزعم الغيرة على الإسلام. ومنذ ذلك اليوم، أصبح الفكر الخارجي يتجدد في صورٍ وأسماءٍ مختلفة، لكنه يبقى واحدًا في جوهره: الجرأة ثم الطعن. الجرأة على الأنبياء والتعدي على مكانتهم، والطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم واتهامهم في دينهم وعدالتهم، هو طعن في الدين ومصدره؛ لأنهم جيل زكّاهم الله ورضي عنهم، وحملوا الرسالة ونقلوا السنّة إلى الناس. فالأنبياء حملة الوحي، والصحابة نقلة الرسالة، والطعن فيهم طعن في المصدر وتشكيك في المضمون. ومن يتجرأ على الأنبياء ويطعن في الصحابة فهو يطعن في الدين وسنة المصطفى، ومن يطعن في السنة أو كتبها فهو يطعن في الدين نفسه. فالسنة هي الحصن الأول للأمة، ومن تمسك بها على فهم الصحابة سلم من الغلو، ومن أعرض عنها وقع في الفتنة؛ أما الطعن في كتبها كصحيح البخاري، فهو امتداد لفكر الخوارج الذين بدؤوا بالخروج على السنة قبل الخروج على الحكام والدولة، لأن من لم يخضع للوحي لن يخضع لوليّ الأمر، ومن ردّ سنة النبي صلى الله عليه وسلم سيهون عليه الخروج عن الجماعة ومفارقتها. فالسنة تجمع ولا تفرّق، وتنهى عن القتل والتكفير، وتغرس في القلوب الرحمة، وتبين سماحة الإسلام، وتدعو إلى الوحدة والاجتماع. أما من خالفها فقد أساء إلى دين الله ورسالة نبيه وشريعته السمحة، وفتح باب الفتنة التي تبدأ بالجرأة ثم الطعن وتنتهي بالدماء والدمار.