ليست الوسطية موقفا رماديا كما يظن البعض، بل فن العيش بوعي وسط عالم تتنازعه الأضداد، وصوت العقل الهادي الذي لا يغريه ضجيج الجماهير ولا يخيفه وحدته، فالوسطية ليست نداء دينيا فحسب، بل قيمة إنسانية عابرة للزمان والمكان. وفي زمن تتقاطع فيه الأصوات، وتضج فيه المنصات بكل ما هو متناقض، تبرز الوسطية لا كخيار من ضمن الخيارات، بل كمنهج للحياة، وكهوية حضارية تحفظ التوازن بين العقل والعاطفة، بين الثبات والتجديد، وبين الانتماء للعقيدة والانفتاح على العالم. الوسطية ليست حيادا باردا ولا تمييعا للمواقف كما يتوهم البعض، بل هي قوة العقل حين يحتكم للقيم قبل العاطفة، وحكمة القلب حين يدرك أن الغلو في أي اتجاه هو أول الطريق إلى الهاوية، هي تقول «نعم» للعالم بوعي، وتقول «لا» حين تمس الثوابت خطوطها الحمراء. وقد أدركت المملكة مبكرا أن بناء الإنسان لا يتم بالشعارات، بل بغرس هذا النهج في الفكر والممارسة، فمشروعها التربوي، ومناهجها التعليمية، وحتى رؤيتها الطموحة (رؤية 2030) انطلقت من مبدأ التوازن بين الأصالة والتجديد، بين الهوية والانفتاح، لتقدم للعالم نموذجا متفردا لدولة تؤمن بأن الاعتدال ليس ضعفا، بل قوة تُمارس بثقة. الوسطية اليوم ليست مجرد خطاب وعظي يلقى من علي المنابر، بل ضرورة وطنية وأخلاقية؛ لأنها السياج المتين الذي يحمي المجتمع من التطرف والانغلاق. كما تحميه من الذوبان في ثقافات الآخر، والجسر الذي نعبر به من ماضٍ نفاخر به إلى مستقبل نصنعه بإرادتنا. الأمم لا تنهض بالصوت الأعلى، بل بالفكر الأعمق. الوسطية هي ذلك العمق الذي يجعلنا نرى المشهد كاملا بلا رتوش، فلا نحكم من زاوية واحدة، ولا نعيش أسرى لعاطفة عابرة أو نزعة فكرية متطرفة. لقد أثبت التاريخ على مر العصور أن بقاء الأمم ليس للأقوى، بل للأقدر على التوازن، ومن هنا فإن الوسطية ليس مجرد خيار سياسي أو اجتماعي، بل نهج للبقاء شرعته العقيدة منذ أربعة عشر قرنا، ومن لم يدرك هذه الحقيقة سيظل متأرجحا بين طرفين، كلاهما يفقده إتزانه بين التشدد والانفلات. وما أحوجنا اليوم إلى أن نعيد صياغة وعينا على ضوء الفهم، لا لنرضي أحدا، بل لنحيا في سلام مع أنفسنا، ومع عالم يموج بالضجيج، ولا ينجو إلا من سلك طريق الوسط، حيث تسكن الحكمة ويزهر الإتزان. الوسطية ليست درسا ندرسه، بل وعيا نحياه.. هي أن نصغي للعقل دون أن نميت القلب، وأن نفتح النوافذ دون أن نسقط الجدران، وأن نكون كما أرادنا الله: أمة وسطا، تشهد للخير لا عليه. ختاما، الوسطية ليست ترفا فكريا نمارسه بالندوات، بل مسؤولية وطنية قبل أن تكون قناعة شخصية، نحن بحاجة لنعيد تعريفها من جديد، لا كموقف من القضايا، بل كأسلوب في الحياة، يبدأ من طريقة تفكيرنا، ويمتد إلى سلوكنا في العمل والحوار والاختلاف. لقد أثبتت التجارب أن التطرف لا يبني، والانفلات لا يصلح، وأن من يملك البوصلة المتزنة في حياته هو من يملك المستقبل. إن الرهان الحقيقي اليوم ليس بالصراخ الأعلى، بل من يفكر بعمق، ويختار الاعتدال طريقا ووعيا لا شعارات كاذبة. ولعلنا نحتاج اليوم إلى قليل من الصمت، وكثير من الوسطية، قبل أن نصحو على حقيقة أننا لم نعد في المنتصف، بل في منتصف الضجيج.