في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتصاعد النزاعات، تبرز الثقافة كملاذٍ آمن يمدّ الجسور بين الشعوب ويعيد للإنسان معناه الإنساني الأصيل، فالثقافة ليست مجرد فنون أو كتب أو لهجات محلية، بل هي منظومة قيمية تشكّل وعي الإنسان بذاته وبالآخر، وتغرس فيه القدرة على تقبّل الاختلاف بوصفه ثراءً لا تهديداً، منذ فجر التاريخ كانت المجتمعات التي تحترم ثقافات الآخرين أكثر استقراراً وتطوراً. فعندما ينفتح الإنسان على ثقافات مختلفة، يتعلّم كيف يرى العالم بعيون غيره، ويكفّ عن اختزال الناس في عرق أو مذهب أو لغة، وهذا هو جوهر التعايش السلمي: أن نحيا معاً دون أن نتشابه بالضرورة، وأن نختلف دون أن نتصارع. إن أهمية الثقافة في تحقيق هذا التعايش تتجلى في قدرتها على تهذيب السلوك وتليين القلوب، فالفنون والموسيقى والأدب والمسرح كلها أدوات تبني الحوار بصمتٍ أبلغ من الضجيج. من يشاهد فيلماً إنسانياً أو يقرأ رواية من ثقافة أخرى، يشعر أن الهموم البشرية واحدة، وأن الألم والحب لا وطن لهما، بهذا الوعي الجمعي تذوب الفوارق ويعلو صوت الإنسانية على كل ما سواه. المجتمعات التي تستثمر في الثقافة لا تصنع فناً فقط، بل تصنع وعياً وسلاماً. فالمكتبات، والمتاحف، والأنشطة الثقافية ليست ترفاً كما يظن البعض، بل هي مدارس مفتوحة للسلام، تربي الأجيال على قبول الآخر، واحترام القانون، ونبذ الكراهية، حين تُمنح الثقافة مكانتها، تنكفئ التطرفات وتضعف أصوات التعصب. إننا اليوم أحوج ما نكون إلى ثقافة تُعيد الإنسان إلى مركز الصورة، ثقافة تُعلّم أبناءنا أن الحوار ليس ضعفاً، وأن الاختلاف لا يعني الخلاف. فالتعايش لا يُبنى بالقرارات السياسية وحدها، بل بتربية الوجدان على احترام التنوع، وببناء عقولٍ تعرف أن الحضارة الحقيقية هي التي تضع الإنسان فوق كل انتماء آخر، إن الثقافة هي الضمير الجمعي للأمم، والدرع الذي يحميها من الانقسام، والنور الذي يرشدها إلى طريق السلم، ومتى ما وعينا ذلك، أدركنا أن كل كتاب يُقرأ، وكل لوحة تُرسم، وكل لحنٍ يُعزف، هو لبنة صغيرة في صرحٍ كبير اسمه السلام الإنساني.