في قلب مدينة الرياض، ينبض مشروع يعيد تشكيل علاقة الإنسان بالمدينة، ويفتح آفاقًا جديدةً للحركة والتواصل، إنه مشروع «قطار الرياض». هذا المشروع الذي يتسم بمبادئ المشاريع من حيث الاستمرارية والاستدامة والتطوير المتواصل يرمز إلى بداية مسارٍ جديد نحو أفق أرحب وأوسع وأشمل، لأنه يتجاوز فكرة البنية التحتية الحضرية التي تهدف إلى تسهيل التنقل؛ إلى تحقيق بناءِ«منظومةٍ» اجتماعية وثقافية وإنسانية وفلسفية، ترسم معالمَجديدة للعيش المشترك والتفاهم الإنساني. فالقطار ليس مجرد مركبة تسير على سكك حديدية، بل هو فضاء تفاعلي مفتوح تتقاطع فيه مصائر البشر، وتُعاد فيه صياغة العلاقات الإنسانية بعيدًا عن الحواجز والتصنيفات والخلفيات. يمثل القطار بهذه المعاني، فلسفة «المكان الثالث»؛ ذلك الحيز الذي يتوسط المنزل والعمل، حيث يجد الإنسان نفسه جزءًا من نسيج أوسع من هذه العلاقات التي قد تبدو وكأنها من حيث المبدأ «عابرةٌ» أمام حقيقةِ أنها تتجاوز مفهوم الجزئية والمرحلية، إلى أن تكون مدخلًا لتشكيل جانب مهم من «الهوية المنفتحة»، ولو في فضاء يُفترض فيه للوهلة الأولى أن يكون مؤقتًا. هذه البيئةُ المكانية هي بالأساس موطن مصغر للتلاقي بين كل الاختلافات التي يحتضنها المجتمع الواحد، بكل خلفياتها وتصوراتها وأمزجتها ورؤاها وتخصصاتها، فهو يضمُّ الموظف العائد من عمله، والطالب في طريقه لجامعته، والسائح المستكشف للمدينة، والعائلة الباحثة عن محطة جديدة لحياتها اليومية، وضمن هذا المزيج من «التعددية المضيافة» التي تتجاوز مبدأ التخصصية إلى أن تكون تعبيرًا عن الانتماء؛ تتفاعل من خلالها الهويات الفردية الضيقة، وتنتقل إلى صنع الهوية الإنسانية المشتركة وروح التعايش الكوني، والتي قوامها الاحترام المتبادل والانضباط الجمعي المنسجم مع سؤالي الحق والواجب، لدرجة تصبح من خلالها كل رحلة داخل القطار انعكاسًا رمزيًا لحياة المجتمع؛ بداية ونهاية، لقاءات وفراق، وتأمل صامت في ملامح الآخر دون أحكام مسبقة، أو حوارات جانبية تنقلك إلى فكرة العيش بالمعيَّة. ثم إن القطار الذي يتنقل بين مسارات الحياة والتنمية على مجموعاتٍ من السكك الحديدية، يرتقي إلى أن يكون جزءًا أصيلًا من «مفهوم المدنية»، لإحالته الضمنية إلى مبدأ «المواطنة»، من حيث كونها تعني الثابت أمام كل المتغيرات الثقافية والاجتماعية والدينية للمجتمع الواحد، فمفهوم الوطن هو الذي يسمو بين الاختلافات نحو الوحدة والانتماء، والقطار أو غيره من «وسائل النقل العام»، هي التي تسمح بتجربة هذه القدرة على العيش بمنطق الوحدة رغم كل الاختلافات الواردة والممكنة والصحية، وهي المختبر الذي يمكن الاعتماد عليه في امتحان «المدنية» بكل معانيها السياسية والحقوقية والقانونية والأخلاقية والإنسانية والدينية، لأنه يتيح ممارسة هذا الحق في الاستعمال الخاص للعقل، من حيث كونه يحيل إلى هوية الأفراد، ضمن مجال «العقل العمومي» بمدلولاته المتصلة بالهوية الجماعية والمشتركة، والموصولة بالمشترك الوطني والمدني والإنساني، الذي يحتضنه «الفضاء العام»، موسومًا بكونه فضاءً لتلاقي الخصوصيات والإرادات الجماعية. هذه الصلة بين القطار وفكرة المواصلات، مع الوطنية والمواطنة وقيم المدنية ومقولات الفضاء المشترك والعقل العمومي، تجعل «قطار الرياض»الذي تربط مساراته أذرع المدينة بقلبها النابض ، مختبرًا للتعددية الثقافية والإنسانية. إنه المكان الذي يتيح للأفراد تقاسم المساحات والأزمنة المشتركة. وهو أيضًا الفضاء المتداخل، الذي تتلاشى ضمنه الفروق الاجتماعية والاقتصادية، وتتولد فيه لحظات إنسانية خالصة؛ ابتسامة متبادلة، اعتذار صادق، أو مساعدة بسيطة قد تبدو هامشية لكنها تحمل في طياتها معانٍ عميقة عن فكرة التآزر. هذه التفاصيل الصغيرة، المتكررة يوميًا، تُعيد تشكيل الوعي الاجتماعي لدى الأفراد، وتجعلهم أكثر إدراكًا لقيمة التعايش وأهمية الحوار الصامت الذي يجري بين المقاعد والممرات، لكن بمعانٍ عميقة لها صلة بالعيش الأصيل وفق الاختلافات. وفي عالم نحتاج فيه جميعًا إلى تشجيع الإيمان بالاختلاف، وتوطيد شروط دولة الرفاهية، ومجتمعات المعرفة، ومعاني المدنية والتنمية، يُصبح قطار الرياض، أو غيره من المشاريع المتعددة تحت بند «النقل العام»، مساحة لزرع بذور الاعتدال والسلام. إنه ليس مجرد عربة تسير من محطة إلى أخرى، بل هو منصة متنقلة يُمكن استثمارها لبث رسائل التعايش والتسامح عبر شاشاته الإلكترونية، أو ملصقاته التوعوية، أو حتى فعالياته المصغرة داخل العربات، كما يمكن أن يصبح القطار أداة فعّالة لتعزيز مفاهيم الحوار ونبذ العنف والكراهية، فكل محطة يمكن أن تتحول إلى مساحة ثقافية تعرض فنونًا محلية، أو منصة لنشر قصص نجاح تُلهم الأفراد، وتُنمِّي ميثاق «الفضاء العام» بكل حمولاته الثقافية والأخلاقية والإنسانية. بل إن القطار لا يمثل فقط أداة للتعايش والسلام؛ إنّما هو أيضًا فلسفةٌ للحركة المستمرة، فكل رحلة على متنه تُشبه الحياة نفسها؛ مسار يبدأ وينتهي، ولقاءات تتجدد أو تتوقف عند كل محطة. هذه الحركة المستمرة تُذكرنا بأن الحياة في جوهرها ليست ثابتة، وأن الإنسان دائمًا في حالة انتقال؛ بين الأفكار، بين القناعات، وبين الأماكن، وهي على هذا الأساس ليست مجرد انتقالاتٍ ماديةٍ من نقطة إلى أخرى، بل هي أيضًا رحلةٌ داخلية نحو الوعي بالذات وبالآخرين، وتسمو لأن تكون تجربة وجودية، تنطلق من الذات نحو الآخر والعكس، وأن تكون أيضًا مدخلًا لطرح الأسئلة الجدية حول «فن التعايش» ورؤية العالم الذي يرحب بالتشاركية والانفتاح والتقاسم. على هذا الأساس؛ فإن قطار الرياض ليس فقط مشروعًا للنقل العام، بل هو أيضًا وسيلة للتأمل في طبيعة الكون والوجود والمدن الحديثة ودور الإنسان داخلها. إنه يعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمدينة؛ من منطق أن الأخيرة ليست مجرد مبانٍ وطرقات، بل هي شبكة من العلاقات الإنسانية المتداخلة. وفي القطار، تكتسب هذه العلاقات بُعدًا جديدًا؛ حيث يُصبح الفضاء المشترك اختبارًا حقيقيًا لقيم الاحترام والانضباط والمسؤولية الجماعية. ومع ذلك؛ لا يمكن أن يتحقق هذا الحلم الحضاري دون وعي جمعي يُقدِّر قيمة هذا الفضاء المدني المشترك، وهو الرهان الذي يتطلب جهدًا من المؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية لترسيخ ثقافة احترام الأماكن العامة والالتزام بالنظام، وجعل الرحلة اليومية داخل القطار تجربة تربوية تُعزز الشعور بالانتماء والمسؤولية. فالقطار ليس مجرد وسيلة انتقال؛ إنه ساحة تربوية متنقلة، يمكن أن تُشكل أجيالًا أكثر وعيًا بمفاهيم التعايش والتسامح والاعتدال، ما يعني أن قطار الرياض هو أكثر من مجرد مشروع عمراني؛ إنه مشروع حضاري عميق يعيد تعريف مفهوم المدينة الحديثة. إنه رحلة تتجاوز المسافات المادية لتصل إلى الأعماق الفكرية والروحية للمجتمع، فكل محطة تمثل خطوة نحو بناء مستقبل أكثر تناغمًا، حيث يصبح التعايش قيمة يومية تُمارس في التفاصيل الصغيرة، وليس مجرد شعار يُرفع على اللافتات. وبالمجمل؛ إذا كان لكل مدينة قلب، فإن قطار الرياض هو نبض هذا القلب بسككه التي تمثل شرايينًا تضخ الأمل والتواصل والتفاهم في نواحي المدينة، ويدفع بالمجتمع بأسره نحو مستقبل أكثر انسجامًا وسلامًا. في كل رحلة، وفي كل محطة، يترك القطار وراءه أثرًا لا يُمحى: أثرًا من الوعي الإنساني، والمسؤولية المشتركة، والإيمان بأن السلام والاعتدال ليسا محطتينِ بعيدتين، بل هما وجهتانِ يمكن الوصول إليهما كل يوم، عبر مسار مشترك واحد، يبدأ من داخل كل فرد منّا، ليصب في نهر الجماعة والوحدة وقيم المدنية وروح الوطن والمواطنة. * باحث سعودي د. مازن بن عبدالمحسن ابن شاهين*