«أحسن الكلام ما قامت صورته بين نَظمٍ كأنّه نَثر، ونَثرٍ كأنّه شِعر» (أبوحيّان التوحيدي)؛ «من منّا لم يَحلم، في أيّام الطموح، بمعجزة نثرٍ شعريّ، موسيقيّ من دون قافية (تفعيلة) فيه ما يكفي من المرونة والتكيُّف مع حركات النفس الغنائيّة، وتموّجات أحلام اليقظة، وانتفاضات الوعي» (شارل بودلير). قامت الشعريّة الكلاسيكيّة (الإتّباعيّة) عند العرب على الالتزام بالقواعد العروضيّة (عِلم العروض): القافية والوزن والبحور، وفقَ نظام العروض الخليليّ (الخليل بن أحمد الفراهيدي) وبحوره الستّة عشر، مع متداركاتِها وجوازاتِها. وقد صارت هذه القواعد على مرّ الزمن والتاريخ «عقائد» يُعرَف ويُعرَّف بها الشعر الموزون المقفّى. وقد أعطى هذا الشعرُ - في الماضي - شعراءَ كبارًا من أمثال: امرؤ القيس وطرفة بن العبد والنّابغة الذبياني.. ومن ثمّ المتنبّي وابو تمّام والبحتري والمعرّي، امتدادًا إلى حقبتنا المعاصرة: أحمد شوقي ومحمّد مهدي الجواهري وسعيد عقل وبدوي الجبل وعمر أبوريشة وغيرهم.. وغيرهم. وظهرت حالات بيْنيّة كالشعر الأندلسيّ، وشعراء المهجر في ما بعد، كأعضاء الرابطة القلميّة (جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة..) فأجروا تعديلاتٍ على بنية القصيدة التقليديّة، جَدّدوا خلالها سياق الوزن والقافية وصولًا إلى عنصر التفعيلة ونَبَضِها المَرِن.. ومن ثمّ حتّى إلى قصيدة النثر، إذ يعد بعضُ النقّاد العرب أنّ أمين الريحاني، مثلًا، هو الرائد الحقيقي لقصيدة النثر، بخاصّة في مجموعته «هتاف الأودية» الصادرة في العام 1910؛ حيث تأثَّر الريحاني في أجواء قصائدها بأجواء قصائد الشاعر الأمريكي وولت ويتمان، ولاسيّما في ديوانه الشعريّ الشهير: «أوراق العشب». أمّا في الغرب الأوروبي، فانطرح التجديد في الشعر في إطار ما سُمّي على الفور ب «قصيدة النثر»، فما أن أَطلق فرنسوا فينيلون روايته «مغامرات تليماك» التي اعتبرها الناقدُ الفرنسي الكلاسيكي الكبير نيكولا بوالو «قصيدة نثر»، حتّى طفقَ النثرُ الشعري يسري في عروق اللّغة الفرنسيّة، وبَدأ صوت «دولاموت» (قابلة الموت التي تقدّم الدعم غير الطبّي للمُحتضِر) يعلو ويصرخ في فرنسا والغرب كلّه: «ألا فليُكتَب للناس قصيدٌ غير موزون، فالشعر الموزون، صار بابًا يضيق بقائليه وحريّتهم الإبداعيّة». وما لبث شعراء قصيدة النثر أن صاروا هُم الشعراء الحقيقيّين في فرنسا، خصوصًا بعدما اضْطلعت الرومانطيقيّة بدَورٍ نافذٍ في تليينِ مَتن القصيدة وتقريبِها من النثر. كما أَسهمت في إدخال الأسْلبة والشاعريّة على الفنّ بعامّة. وباتت البورجوازيّة الفرنسيّة تميل أو تفضّل فانتازيا هذا الشعر الجديد على ما عداه من شعرٍ متحرّك في ميادين علم الجمال ومفاهيمه التقليديّة. حتّى أنّ بودلير رأى في قصيدة النثر التعبير الأسمى عمّا هو زائل وعابر في المُدن الكبرى. وتناوَل الشاعر ستيفان مالارميه القصيدةَ كوسيلة للتعبير عن فوضى الأنا الداخليّة، فوضى الحواسّ، حيث حاسّة السمع تؤدّي وظيفةَ حاسّة البصر، وحاسّة النَّظر تَحلّ محلّ حاسّة اللّمس... إلخ. وأُدخلت المصادفة على خطّ هذي القاعدة باعتبار أنّ الشعر صار أشبه بلعبة نرد. ورأى نقّاد الحداثة في القرن العشرين أنّ القصيدةَ ينبغي أن تكون خاليةً من الاستطرادات والمواعظ والمقاييس والقواعد الجامدة. وأن تنأى أيضًا عن الرعاف والسفْسطة والمحاسن اللّفظيّة الفضفاضة. واعتبروا أنّ الشعر باتَ يستمدّ قيمتَه الإبداعيّة من أسلوبيّته وفلسفته، ولغته، في الأفعال اللّازمة غير المتعدّية، والإيقاع الطّافر، الهابط، المستقيم، المتكسّر وغيرها من أشكال البلاغة المختلفة. كما تداخَلت نصوصُ الشعر بالفنون التشكيليّة على اختلاف نزعاتها التكعيبيّة والسورياليّة والتعبيرية...إلخ. وصار الشاعر، بنَظَرِ آرثر رامبو، هو الذي يرى اللّامرئي، ويجعل كتابته تُشَمّ، وتُسمَع وتُحَسّ، بمنأىٍ عن القيود المنطقيّة والنحويّة الجامدة. ولَجأ أندريه بروتون في كتابه «الحقول المغناطيسيّة» إلى كتابةٍ سورياليّة لا جنس أدبيّا لها، استحالت فيها الأبياتُ الشعريّة أنساقًا حرّة، أوتوماتيكيّة، لا واقعيّة، متشظّية، صارمة على هواها ومتهكّمة على هواها أيضًا. الشعريّة العربيّة الجديدة على المستوى الأدبيّ والثقافيّ العربيّ، أيُمكننا الكلام في ما بعد ثورة الشعر الحديث في الغرب وأوروبا بخاصّة على شعريّةٍ جديدة مُغايرة تتجاوز قواعد الشعر السائدة و«عقائده»؟، وكذلك ماذا عن كلّ هذا الذي نظَّر له نقّاد الشعر الجدد عندنا من أمورٍ باتت مُستهلَكة، من نصوصٍ إبداعيّة ما بعد حداثيّة، أو قصائد خوارزميّة مؤطَّرة تُضلّل صيّادَها النقديّ وتؤشِّر في المحصّلة إلى ما باتَ يُسمّى ب «موت» الشعر والشعراء أو بالأحرى التجارب الشعريّة على اختلافها؟! وفي ما يُشبه الإجابة العامّة عن هذا التساؤل المتشعّب، ومن خلال العودة إلى الماضي الشعريّ العربيّ المغاير، نقول إنّ لنا في الموشّحات الأندلسيّة، والنثر، والسجع، والمقامة أمثلة على كتابةٍ شعريّة لا تتقيّد إلّا بمقتضى الخاطر والروح والفكر والعبرة، لا تتقيّد إلّا بقواعد اللّغة (البيان والبديع والبلاغة) ولا تَعتمد إلّا على معايير جماليّة بحتة، كمعايير الإبانة والفصاحة والبلاغة والإزاحة والبدل والقلب والدهشة والخيال، مع الالتزام بمعايير الغنائيّة والتلوين والتشكيل الأدبيّ الفنّي. إنّ الكتابة التي تأنف من قواعد الشعر وجوازاته بإمكانها هنا أن تَستأنفَ الكتابة الإبداعيّة، ما دامت تتوافر على شروط الآداب الجميلة.. والجماليّة الجديدة التي هي بيت القصيد والقصد، والشكل والمضمون.. ومناط الحسّ ومعيار التذوّق الأدبيّ الآخر. والكتابة الشعريّة العربيّة المتوخّاة، وإن خالَفت قواعد الشعريّة والنثريّة الكلاسيكيّة، فهي لا تَختلف معها، وإنّما على العكس، تُثريها وتَغتني بها في إطار كتابةٍ تعبيريّة متعدّدة ومتنوّعة يَغتني فيها تداخُل النَّظم بالشعر والشعر بالفنّ والفكر. فوق هذا وذاك، أيمكننا كتابة الشعر عفو الخاطر، وبمنطق الفكر وعفويّة اللّغة، ومتعة الكتابة ولذّتها؛ وكذلك استطرادًا عَبْرَ تعالي الشعر بالفكر، وتضافُر النَّظْم بالنثر... إلخ؟ من المعلوم أنّ تجربة الحداثة الشعريّة العربيّة قد انطوت في مجلّة «شعر» (لبنان) على الدعوة إلى قصيدةِ نثرٍ حرّة، واتَّخذ روّادُ هذه التجربة اتّجاهاتٍ مختلفة، منها النثريّة الراديكاليّة التي تَعتبر الذاكرة «مسحاء»، ككتابة أنسي الحاج الأولى عبر ديوانه «لن»، ومنها مَن اعتبرَ التراث قَدَراً، حتّى في القطيعة معه (أدونيس). أمّا الشاعر محمّد الماغوط، فهو رمز رموز شعراء قصيدة النثر على المستوى العربيّ، أو هو «الأب الحقيقي لها» على حدّ تعبير الناقد المصريّ الفذّ د. جابر عصفور، وتجربته - أي الماغوط - في المحصّلة هي التي أعطت شرعيّةً أدبيّةً لهذه القصيدة، اعترفَ بها خصومُ هذه القصيدة قَبل المؤيّدين لها، وتحوَّلت بالتالي إلى جنسٍ أدبيّ له خصوصيّته الإبداعيّة فائقة السطوع. ومن الضروري هنا أن نُسجِّل بعد ما قاله ناقدٌ مصريّ فذّ آخر هو د. صلاح فضل في تجربة قصيدة النثر عند الشاعر محمّد الماغوط، وذلك بعدما قارنَها بقصائد التراث العربيّ القديم والمُعاصر كلّه، يقول «مهما كنتَ مفتونًا بالتراث الشعريّ العربيّ وأسيرًا له، فليس بوسعكَ أن تَندم على هجرانها في قصائد محمّد الماغوط، إذ لا ينتابكَ الشعور بافتقادها وأنتَ ترى الشعر يَنهمر بين يديْك دونها، وهذا برهان الإبداع الذي يفوق حجج النقد». هكذا وبالرّغم من ذلك كلّه، فإنّ إشكاليّة الشعر والشعريّة تظلّ أيضًا معقّدة، لأنّ معيار الحُكم النقديّ بات هو على تعقيدٍ أيضًا من هذه الوجهة أو تلك. علامَ يقوم النقد يا ترى: على اللّغة؟ على الموقف؟ على الفرادة؟ على الأصالة والحداثة؟ هنا نَدخل في معياريّةٍ نقديّة تقول: لقد استحقَّ الشاعر أحمد شوقي لقبَ الإمارة بفضل أسلوبيّته اللّغويّة الساحرة التي نَجدها في قصيدته «مضناك جفاه مرقده»... مثلًا. ولو عاينّا ديوان جبران خليل جبران «المواكب» لحكمْنا عليه بالركاكة. ولكنّ قصيدة «أعطني الناي وغنِّ»، المرمَّمة على ما يبدو، تُعدّ من فرائد الشعر. قد لا يبقى من الشعر في غربال الشعر سوى جملة، أو خاطرة، أو حتّى كلمة من ذرى الكلم، في ما يتبقّى من الشعر. وقد نكتب الشعر كأنّنا أوّل الشعراء وآخر الشعراء.. وقد لا نحفظ لشاعرٍ عظيم كالجواهري من أبياته سوى جملة «باق وأعمار الطغاة قصار».. ولا نحفظ لعاشقة الدجى نازك الملائكة سوى جملة «هل يوقظ البوق هياكل العبيد؟».. ولا نحفظ، عن ظهر قلب أيضاً، للسيّاب سوى المقطع الذي يبدأ: «وكلّ عام حين يعشب الثرى نجوع/ ما مرّ عامٌ والعراق ليس فيه جوع» من ملحمته الشعريّة العتيدة «أنشودة المطر» والتي يَنتصر فيها لفقراء العراق ومعدميه.. من جهته، كان محمود درويش قد أعطى الوطن (فلسطين) اسمه، فأعطاه الوطن في المقابل اسمه عبر جدليّة عطاء ولا أنْبَل ولا أسْمى. وعليه نقول هنا وبأعلى الصوت: إذا لم يَحمل الشعراء المصباح من بيتٍ إلى بيت، ومن ضمير إلى ضمير، ومن ذاكرة حيّة إلى ذاكرة حيّة أخرى فليخلدوا للصمت.. وحتّى أنسي الحاج تخلّى عن رادكاليّته في الشعر في ديوانه «لن» واتّجه نحو الروحانيّة في الشعر. وحين نَعترف لنزار قبّاني بأنّه رائد الرسم بالكلمات، وأنّه حوَّل الكلام العاديّ إلى كلام «إكسترا عادي»، قد نُحبّذ شعره السياسيّ على شعره النسويّ الذي أساء خلاله إلى حريّة المرأة العربيّة وكرامتها: «فصّلتُ من جلد النساء عباءة».. تبقى أنّ ريادة الشعر الفلسفيّ في نظرنا، هي بالتأكيد مُحتجزة لإيليا أبي ماضي وقصيدته «لست أدري». ويُعدّ خليل حاوي رائد الشعر الدراميّ الحديث. ومع أنّ صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي هُما من كبار شعراء مصر، فإنّ الشاعر أمل دنقل يمتاز في قصائده الدراميّة على سائر الشعراء الكبار في أرض الكنانة، بخاصّة في قصيدته: «لا تصالِح». ولا يسعنا نسيان شآميّات سعيد عقل التي «ويا للمُفارقة» تَبرّأ منها على نحوٍ أو آخر في ما بعد. وعلى الرّغم من شذرات محمّد علي شمس الدّين الفلسفيّة، فإنّ تقمّصه لحافظ الشيرازي في ديوانه «شيرازيّات» يظلّ إنجازه الأكبر. وقد يكون شعر المقاومة الفلسطينيّة مع سميح القاسم، وقصيدة «أناديكم» لتوفيق زيّاد، وقصيدة «موطني» لإبراهيم طوقان، و«سنرجع يومًا» لهارون هاشم رشيد، مناط الجدّة والغنائيّة الجميلة في الشعر. وما تبقّى ليس كلّ قصيدة خريدة، ولا كلّ جديدة جادّة ومفيدة في تضافر الشعر بالفنّ والفكر. *أكاديمي وكاتب من لبنان * ينشر بالتزامن مع دزريو افق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.