يتكرر السؤال نفسه في غالبية اللقاءات مع أصدقاء وزملاء، وحتى مع أناس عابرين من مختلف الدول والمشارب السياسية والفكرية: سوريا إلى أين؟ تظهر على وجوه الجميع تقريبا ملامح الرغبة في إجابة قصيرة وافية شافية، تُزيل حالة التيه الناتجة عن سيل من المحتوى المتناقض الذي تضج به منصات التواصل الاجتماعي وحتى وسائل الإعلام، ما يجعل الحكم على المستقبل ضبابياً مع ميل إلى التشاؤم، ذلك أن المحتوى السلبي أكثر انتشارا وأوقع أثرا من المحتوى الإيجابي في مختلف القضايا، فما بالك إذا كان الموضوع يتعلق بسوريا الخارجة للتو من جحيم الديكتاتور الأسد (الأب والابن). ولأن السؤال مهم جدا وكبير جدا، نحتاج للإجابة عنه إلى تحليل الواقع السوري، ونختار خيوطا قوية، لنحيك ملامح المستقبل. بالمنطق العلمي، يمكن أن نخضع الحالة السورية إلى تحليل سوات (SWOT)، الذي يقيّم الحالة وفق أربعة محاور، تشمل نقاط القوة والضعف والتهديدات والفرص، لنستنتج بعدها إلى أين تسير سوريا. من ضمن نقاط القوة التي لا يمكن إغفالها تماسك المؤسسة الأمنية والعسكرية الجديدة، فبعد 10 أشهر من تحرير سوريا، استطاعت هذه المؤسسة، التي تمثل «هيئة تحرير الشام» عمودها الفقري، إعادة هيكلة نفسها، لتضم جميع الفصائل والقوى الثورية، ونجحت في ضبط الوضع الداخلي وفرض الاستقرار والأمن نسبيا، والحد من الثأر والانتقام بشكل فاق المتوقع شعبيا. وتحمل سوريا من نقاط القوة موقعها الاستراتيجي بين قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا، وتربّعها على بوابة العرب نحو أوروبا، وتراثها الإنساني العريق، وشعبها المتميز بخبرته في مختلف المجالات، وقدرته على التأثير، وتقبّل شريحة واسعة التغيير الجذري الذي حدث بعد إسقاط نظام الأسد، والرغبة في إعادة بناء البلاد، وهو ما برز بشكل لافت في المشاركة المجتمعية الكبيرة في حملات التبرع لإعمار المحافظات والمدن السورية أخيرا. ويحمل القادمون الجدد إلى القصر الرئاسي مشروعا سياسيا لإدارة البلاد يختلف تماما عن مشروع النظام البائد، وينطلق من الواقعية السياسية ونبذ شعارات «المقاومة والممانعة»، والانفتاح على العالم بروح التعاون والمصالح المشتركة، والعودة إلى الحاضنة العربية، وقطع رأس المشروع الإيراني، والنأي بالبلاد عن الصراعات الإقليمية والدولية. أما نقاط ضعف سوريا الجديدة فكثيرة، لكن أبرزها الدمار الهائل في غالبية المناطق نتيجة سياسة «الأرض المحروقة» التي انتهجها نظام الأسد، وضعف البنية التحتية، والفقر الذي يلف غالبية الشعب، والانهيار الاقتصادي، والتخلف التقني، والتشظي الاجتماعي والمشكلات الطائفية، خصوصا في بعض مناطق الساحل والسويداء، وانتشار المخدرات، وضعف مؤسسات الدولة، والفساد الذي ينخرها، وعدم القدرة على إعادة ملايين اللاجئين والنازحين إلى قراهم المهدمة، ونقص الخبرات، خصوصا في القطاعات الحيوية. ولا شك أن هذا الواقع يوجد كثيرا من التهديدات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، أبرزها التدخلات الخارجية، وعلى رأسها إسرائيل التي لا يعجبها القادمون الجدد إلى دمشق، وسعت وستسعى دائما لإجهاض الدولة الوليدة، والحيلولة دون استمرار الرئيس أحمد الشرع ورفاقه في الحكم. كما أن وجود قوات أجنبية على الأراضي السورية (أمريكاوروسيا وتركيا) يحمل مزيدا من المخاطر، خصوصا في حال تضارب مصالح تلك الدول. إيران أيضا لم تنس نكستها في سوريا، فهي أكبر الدول الخاسرة إستراتيجيا، إذ انكسر مشروع المد الشيعي عند البوابة السورية، ولا سبيل لإحيائه من جديد حاليا في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها طهران بعد الحرب الإسرائيلية - الأمريكية عليها، التي جعلتها تبدّل أولوياتها مؤقتا، لكنها لا شك لن تنسى الإهانة العميقة التي ألحقها بها ثوار سوريا حين طردوها شر طردة بعد أن قتلوا آلافا من ميليشياتها، ووأدوا حلمها بإمبراطورية تمتد من طهران إلى بيروت. أما العقوبات الاقتصادية التي فرضتها القوى الغربية على النظام البائد، فلا تزال موضع تهديد، إذ لم يجر إلغاؤها بشكل كامل، وأي تغير في موازين القوى والمصالح الدولية يمكن أن يعيد البلاد إلى مربع العزلة الاقتصادية. داخليا، لا يزال الحكم انتقاليا بإعلان دستوري مؤقت. كما تغيب الآلية القانونية لاختيار خليفة للرئيس، ما قد يؤدي بالبلاد إلى انقسام وفوضى في حال تعرض الرئيس لأي مكروه. وحتى اليوم، فإن جزءا كبيرا من البلاد خارج سلطة الدولة، ويشمل شمال شرق سوريا الذي تسيطر عليه ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وكذلك السويداء جنوب البلاد، وهو ما يهدد وحدة البلاد. ويجب ألا نغفل الخطر الأمني الذي تمثله الجماعات المتطرفة، مثل داعش، التي يمكن أن تنشط في حال حدوث أي خلل ببنية سوريا الحالية. وكذلك، تبرز الحاجة الملحّة إلى فتح قنوات حوار فعّالة مع مختلف المكونات السورية، التي تضم أكبر تنوع طائفي وعرقي في المنطقة، والتوصل إلى صيغة جامعة للسوريين على اختلاف مشاربهم. وعلى الرغم من كل ما يلف سوريا الجديدة من ضعف، وما يحيط بها من مخاطر وتهديدات، فإن فرص تعافيها كبيرة وواقعية، ومن أبرز الفرص الاهتمام الإقليمي والعربي باستقرار وأمن سوريا، ويبرز ذلك جليا في الدعم الخليجي، خصوصا من المملكة العربية السعودية، التي صرح وزير ماليتها محمد الجدعان، الجمعة الماضي خلال مناسبة دولية، بأن الكثير من الاستثمارات السعوية فى سوريا يجرى حاليا وضع اللمسات الأخيرة عليها، كذلك يبرز الدعم القطري المتواصل، بالإضافة إلى اهتمام دول الجوار الأردن وتركيا، وصولا إلى التفاهمات مع العراق ولبنان. ويمثل الانفتاح على روسيا، وزيارة الرئيس أحمد الشرع موسكو، ولقاؤه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عوامل دعم أخرى للدبلوماسية الإيجابية الرامية لبناء علاقات دولية على أساس الاحترام والمصالح. ويأتي ذلك بعد نجاح القيادة السورية في الانفتاح على الغرب، خصوصا الدول الفاعلة، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تملك مفاتيح فك العزلة السياسية والاقتصادية عن البلاد. وعلى المستوى الداخلي، فإن البلاد تضم ثروات طبيعة لها وزنها، مثل النفط والغاز والمحاصيل الزراعية الإستراتيجية كالقمح والقطن، ويؤدي إنهاء ملف الخلاف مع «قسد» إلى الاستفادة الكاملة من جميع الثروات. كما تمثل بعض القرارات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة نقطة ارتكاز لاستقرار الوضع الداخلي وبناء الثقة، ومن ذلك تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين، التي تقدر عدد المفقودين ب300 ألف شخص، وتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد، وتصاعد الإنجازات الأمنية في القبض على المتورطين في دماء الشعب. وكلما تحسن الوضع السياسي والأمني في سوريا تعززت فرص الانتقال إلى ملف إعادة الإعمار، مع ما يحمله من أمل في تحسن الوضع الاقتصادي، وازدياد فرص العمل، ومشاركة الخبرات السورية المنتشرة في غالبية بلاد العالم، وعودة رؤوس الأموال الهائلة التي غادرت البلاد خلال الأعوام الماضية، ودعم التنمية الوطنية. وفي هذا الإطار، تشكل أخيرا صندوق التنمية الوطني، لقيادة التنمية المستدامة في البلاد. وبالتأكيد، فإن عودة سوريا إلى النظام المالي العالمي خطوة محورية تؤثر بشكل مباشر على الدولة والمجتمع. وفي ظل هذا المشهد، يمكن القول إن أمام سوريا اليوم فرصة تاريخية للنهوض، لكن ذلك يحتاج إلى إرادة حقيقية من مختلف مكوناتها، وإطلاق حوار وطني واسع، وتجريم خطاب الكراهية والتطرف، وتقديم المصلحة الوطنية على المصلحة الفئوية والطائفية، وإجراء إصلاح شامل يبدأ من أعلى المستويات السياسية والاقتصادية، وإعادة هيكلة قطاعات الدولة، واستقطاب الكفاءات، مع تثبيت الاستقرار الأمني، ما يجذب الدعم الدولي والاستثمارات الخارجية. لا شك أن في سوريا الجديدة أخطاء كثيرة على مختلف المستويات، لكن ذلك يبقى ضمن الإطار المتوقع قياسا إلى ما مرت به البلاد طوال الأعوام الأربعة عشر الماضية، ويُضاف إليها الإرث السيئ عن حقبة الأسدين، وبالتأكيد فإن كل شيء قابل للإصلاح. عودا على بدء، لمن يسأل سوريا إلى أين؟ سوريا إلى مستقبل مستقر جميل، ولو بعد حين. * صحفي ومستشار إعلامي