لا أعلم حقيقة ما يَصِيرُ في هذه الأيام عند رواد التواصل الاجتماعي، من إصدار تسجيلات لهم أو لغيرهم، وكذلك استرجاع تسجيلات للشيخ محمد متولي الشعراوي وغيره من المشايخ، وذلك في نقد السلفية في باب دعاء الله سبحانه وتعالى، فبينما يُنادِي السلفيون بدعاء الله وحده، تكثر مناشير هؤلاء في دعاء غيره سبحانه، وهم لا يسمون ذلك في كلامهم دعاءً لغير الله، وإنما يُسمونه توسلاً إلى الله بدعاء غيره، وذلك ترغيباً لمحبيهم بالالتجاء إلى غيره، لأن دعاء غير الله أصبح بفضل الدعوة السلفية منبوذا، وإلا فإن المتقدمين زمناً على انتشار الدعوة من الصوفية والأشعرية يصرحون بالدعاء، ويزعمون أن دعاءهم واستغاثتهم بغير الله دعاءً واستغاثة بالله، فمن ذلك قول أحمد الرفاعي [ت579ه]: «يا أولادي، إذا كانت لكم حاجة إلى الله تعالى، فادعوا الله تعالى، وتوسلوا إليه بالصالحين من عباده، وادعوا الصالحين ليشفعوا لكم عند الله» البرهان المؤيد ص 25. وقال عبد الوهاب الشعراني [ت973]: «وكانوا [الأولياء] إذا أشكلت عليهم حاجة دعوا الشيخ أبي الحسن الشاذلي، فيقضي الله لهم بها ببركته» الطبقات الكبرى 2: 126. مع أن أبا الحسن الشاذلي توفي سنة 656ه أي قبل الشعراني بما يربوا على الثلاثمائة عام، ويدعو مع هذا إلى الالتجاء إليه. وقال ابن حجر الهيتمي [ت974ه] «لا فرق بين أن يقال: اللهم بجاه فلان، أو يقال: يا فلان ادع الله لي، أو يا فلان اقض حاجتي، فإن ذلك كله من باب التوسل المشروع» الجوهر المنظم 74. وغير ذلك كثير في كلام الصوفية المتقدمين. فإطلاق التوسل لدى المُحدَثِين على الدعاء والاستغاثة نجده كثيراً جداً، مع أن التوسل لدى الفقهاء يختلف عن الدعاء، فقد قال النووي :[ت676ه] «ويستحب التوسل والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه. ومعنى التوسل: أن يتوسل به صلى الله عليه وسلم، أي يجعل وسيلته في طلب حاجته إلى الله» المجموع شرح المهذب 8 :274. فمحاولة هؤلاء المتصوفة [وأنا لا أعني هنا كل الصوفية] مكشوفة لدى طلاب العلم، وليست خافية أبدا. كما أن التوسل بالصفة التي ذكرتُ لا يُطلِق عليه السلفيون شركاً، وإنما هو حرام عندهم ومن فعله يكون آثما، وإن كان قد نُقِل مثل هذا التوسل عن بعض السلف، ولا يكون من فعله فعل شيئاً من أفعال الشرك بفعله إياه، قال ابن تيمية: «وأما إذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه نبيك، أو بحرمة نبيك، ونحو ذلك، فهذا قد نقل عن بعض السلف أنه فعله، وعن بعضهم أنه نهى عنه. ولم يقل أحد من أئمة المسلمين إنه كفر أو شرك، بل غايته أنه من البدع المفضولة» قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 132. ونحن في هذه الأيام نشاهد الكم الكبير من المقاطع التي يحاول أصحابها الاستدلال على جواز الاستغاثة بالأموات، وذلك بإعادة نشر تسجيلات لأناس قد ماتوا كالشيخ الشعراوي، الذي أُعِيد له مقطع يذكر فيه لجوء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى العباس بن عبد المطلب في صلاة الاستغاثة وقوله: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا فإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا)، فيقول: إن عمر طلب من العباس أن يستغيث لهم، أي أنه يجوز أن يتوسلوا بالأنبياء؛ وهذا فهم أخرق، مع تقديرنا لصاحبه، إلا أننا لا نستطيع أن نقول عنه عبارة أقل من هذه، وليتهم لم يعيدوا نشرها، فقد كنا نسمع تأويله للقرآن فيؤنسنا، إلا أنني بعد سماعي لهذه العبارة وعبارات أخر منه، بتُّ لا أثق كثيراً بتفسيره خاصة إذا خاض في مسائل العقيدة عفا الله عنا وعنه. إذ إن قارئ القرآن لا بد أن يسأل: لماذا لم يستغث عمر رضي الله عنه بنبينا محمد وهو في جواره، وطلب أن يستغيث العباسُ؛ وجواب الشيخ الشعراوي لا يقدم شيئا ولا يؤخر. ومما جاء حديثاً كلام لشيخ أزهري يحكي قصة مناظرة موهومة، أي أنها بجزمنا من تأليفه أو تأليف من سمعها منه، بين شيخ صوفي ووهابي كما يسميه، وجزمُنا هذا مبني على أن المناظرات كثيرة منشورة بين السلفيين والصوفيين ولا أعرف أن سلفيا هُزِم في واحدة منها، فلم يبق لهم سوى تأليف المناظرات ليحظوا بشيء من متعة الانتصار ولو كان خيالاً. ومن ذلك ما ذكره في ما جاء في سورة مريم حكاية عن جبريل عليه السلام ﴿قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا﴾ [مريم: 19] مع أن الواهب الحقيقي هو الله، وجبريل ما هو إلا سبب مادي جعله الله ومثله من الأسباب المادية ضرورة في هذه الحياة الدنيا، ولا نختلف نحن وهذا الشيخ الصوفي في ذلك، ولكنه بدأ في ضرب الأمثلة في الأسباب من القرآن على سبيل المناظرة بين الصوفي والوهابي كآية عيسى عليه السلام ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى...﴾ [المائدة: 110] فعيسى هنا سبب للخلق وليس الخالق، وكذلك قوله تعالى: ﴿إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين﴾ [الأنفال: 9]، فالملائكة سبب للنصر وليست هي المنتصر، والشيخ الصوفي موافق لنا في ذلك، ولكنه يخرج من هذه الموافقة بقوله: فلماذا لا تقولون إن الأولياء سبب وليسوا هم الفاعل الحقيقي؟ هنا نفترق معه كما افترق معه صاحب المناظرة المزعوم، لنقول بمحض التوحيد ويقول هو بالشرك، نسأل الله له الهداية، وذلك للفرق بين هؤلاء الأولياء الأموات الذين هم في حاجة إلى دعاء البشر الأحياء، وليس أحد اليوم في حاجتهم، بل إنهم لا يتكلمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يقدرون على شيء كما كانوا يقدرون على قليل من الأشياء المتعلقة بالدنيا وذلك لما كانوا أحياء. فضرب المثل بعيسى وجبريل والملائكة عليهم السلام في هذا المقام لا يغني فتيلا. وحرام على هذا الشيخ كما هو حرام على غيره من أي فئة تحسين دعاء غير الله بمثل هذه المقارنات التي لا تقرها اللغة ولا يقرها الشرع، وما تزيين ذلك للناس إلا من الفتنة التي توعد الله من يأتي بها حين قال سبحانه: ﴿له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ [الرعد: 14] وما البحث عن هذه المعاذير لا لشيء سوى هزيمة الوهابيين فيما يزعم إلا كبسط الكفين إلى الماء كي يبلغ الماء فاه وما هو ببالغه. وكذلك هناك شيخ ثالث من المغرب قام بمناظرة مزعومة مع وهابي في الموضوع نفسه وأتى بالأمثلة نفسها، وما أظنهم -لا سيما في هذه الأيام- إلا منطلقين من داع واحد إلى غاية واحدة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.