في يوم المعلم، يقف العالم بأسره احترامًا لمهنة لا يوازيها شرف، ويستحضر قصص رجال وهبوا حياتهم لتجسيد المعنى الحقيقي للتعليم. رجال لم ينظروا إلى الجداول الدراسية على أنها مجرد أرقام تثقل الكاهل، ولم تجبرهم التطبيقات على الحضور والانصراف، بل اعتبروها أمانة تحمل في القلب قبل أن تسطر في الورق. ومن بين هؤلاء يبرز نموذج فريد يستحق أن يروى، لا كذكرى زمن جميل، بل كقصة وطنية نابضة بالصدق والوفاء. تأمل معلمًا يدرس 32 حصة أسبوعيًا، متجاوزًا نصابه الرسمي، متطوعًا بحصص إضافية دون أي مقابل. معلمًا أنهك التصحيح بصره حتى اضطر للسفر إلى ألمانيا وتركيا وإسبانيا للعلاج، لكنه لم يتخل عن فصله ولا عن طلابه، بل عاد ليواصل رسالته غير مبال بتحذيرات الأطباء ونصائحهم. لم يكتف بعمله في النهار، بل كان يعود بعد العصر ليمنح طلابه المحتاجين دروسًا مجانية، وكأن رسالته لا تحدها ساعات العمل ولا تقف عند زمن محدد. وعندما تقدم بطلب الانتقال إلى الرياض ليكون قريبًا من والديه، لم يجد استجابة فورية، غير أن شهادة مؤثرة كتبها مدير مدرسته في حقه وصلت إلى وزير التعليم آنذاك الدكتور عبدالرحمن بن عبدالله الخويطر "رحمه الله"، الذي أشاد بجهوده ووجه بالموافقة على طلبه. وهناك برز الاسم الذي يستحق أن يحفر في ذاكرة التعليم السعودي إنه المربي الفاضل إبراهيم بن سليمان النفيسة "رحمه الله"، ابن محافظة الخبراء بالقصيم، الرجل الذي عاش لتلاميذه قبل أن يعيش لنفسه. لم يتوقف عطاؤه عند حدود الفصول الدراسية، بل امتد إلى الحرس الوطني حيث أسس أقسامًا تعليمية جديدة، وأسهم في إطلاق جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم. حتى في المواقف البسيطة كان مثالًا للأمانة والنزاهة؛ إذ أعاد ما تبقى من انتداب خمسة أيام لم يستحقها كونه أنجز المهمة في يومين، وحول المبلغ إلى أدوات وأوراق يستفيد منها المكتب، مؤكدًا أن القيم هي الأساس قبل أي مكتسب مادي. لقد كان يتابع أبناء جيرانه ومعارفه لتسجيلهم في المدارس، ويقنع كبار السن بضرورة تعليم بناتهم، ويصحح لخطباء الجمعة حتى تبقى لغة القرآن صافية نقية. وفي سنواته الأخيرة، حين أقعده المرض قبل أن يودع الحياة في عام 1429 للهجرة، ظل محاطًا بمحبة طلابه وزملائه الذين أيقنوا أن ما قدمه لم يكن مجرد وظيفة، بل رسالة تتجاوز حدود الزمن. إن استحضار سيرة المربي إبراهيم النفيسة في يوم المعلم العالمي ليس مجرد تكريم لرجل واحد، بل هو دعوة صريحة للجيل الجديد من المعلمين: أن ينظروا إلى مهنتهم بوصفها رسالة حياة، وأن يدركوا أن كل درس يقدمونه ليس مجرد واجب وظيفي، بل لبنة في بناء وطن ومستقبل. ذلك أن المربي الذي جسد معنى الرسالة يقول للأجيال بفعله قبل قوله: "اصنعوا أثركم، فالأوطان لا تنهض إلا بسواعدكم".