إشكالية الطعام الحلال في الغرب ليست في وجوده أو ندرته كما قد يُتصوَّر؛ فالمنتجات الحلال باتت تصل إلى أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا وأستراليا، بل إلى أبعد المناطق النائية، وهي متوافرة في المتاجر الكبرى والصغرى على حد سواء، لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في سعرها المرتفع، الذي يشكّل عبئًا متزايدًا على الأسر المسلمة هناك. فالمسلم الذي يدخل إلى متجر في السويد أو بريطانيا أو في غيرهما يجد نفسه واقفًا أمام «رفّين» عليهما لحم مذبوح على الطريقة الإسلامية- مذبوح شرعًا- بسعر يقترب من 20 دولارًا للكيلو، ولحم مماثل غير مذبوح على الطريقة الإسلامية- غير مذبوح شرعًا- يُباع في الرف المجاور بنحو 10 دولارات، وهذه الفجوة ليست مفتعلة، بل نتيجة طبيعية لتعقيد سلاسل الإمداد الخاصة بالمنتجات الحلال وطولها، بما ينعكس على التكلفة النهائية. المفارقة المؤلمة أن مجموع مداخيل المسلمين تماثل مداخيل غيرهم، لكن إنفاقهم أعلى بكثير بسبب التزامهم بالحلال؛ فبينما تستطيع أسرة غير مسلمة مكوّنة من 5 أشخاص أن تدير حياتها بمصروف لا يتجاوز 900 دولار شهريًا، تجد الأسرة المسلمة مضطرة لإنفاق ما يزيد على 1500 دولار لتعيش المستوى نفسه، وهنا يتحول الطعام من حاجة يومية إلى عبء اقتصادي، وامتحان على صلابة الهوية، وهو ما دفع البعض إلى ما يمكن أن أسميه «التبرير السهل»، عبر الاستناد إلى ظاهر الآية الكريمة: ﴿..وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم..﴾، معتمدين في ذات الوقت على حديث السيد عائشة، رضي الله عنها، أنَّ قَومًا سألوا النَّبيَّ فقالوا: إنَّ قَومًا يأتونَنا باللَّحمِ لا نَدري أذَكَروا اسمَ اللَّهِ علَيهِ أم لا، فقالَ صلى الله عليه وسلم: سمُّوا اللَّهَ علَيهِ أنتُم وَكُلوا»؛ والدليلان يدلان كما بين الفقهاء على أن الأصل حل طعام أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ولو لم يسموا عليها، لا منكري الأديان وعباد الأوثان، وما لم يعلم يقينًا أن الذبح جرى على غير الوجه الشرعي؛ كالخنق أو الصعق أو ضرب الرأس، والعلم هنا يقتضي مشاهدة ذلك بعينه، أو إخبار من شاهد بعينه، وهذا البيان الفقهي يضع إطارًا واضحًا للجدل القائم بين من يتمسك بظاهر الإباحة العامة، ومن يدعو إلى مزيد من التحوّط في واقع تغيّرت فيه الأساليب وتباينت فيه النوايا. مسألة اللحم الحلال في الغرب، أبعد من مجرد فارق سعري؛ فهي وكما أراها الآن في «مانشستر»، وفي غيرها مثلها؛ معضلة قيمية واجتماعية، يتأرجح فيها المسلم بين التيسير المباح والالتزام الصارم، وبين ضغوط السوق ومتطلبات الهوية، ومثل هذه القضايا لا تُحسم بالفتاوى الفردية، بل باجتهاد جماعي يوازن بين النصوص والضرورات والمصالح، ويضع معالم واضحة في مسألة تمسّ معيشة كل بيت، ومهما اتسع النقاش الفقهي، فإنه لا يغني عن البحث عن حلول واقعية تخفّف العبء، وتحفظ القيم والهوية، وأحسب أن الجاليات المسلمة في الغرب قادرة على إنشاء «تعاونيات» تستورد اللحوم الحلال من المذابح، لتقلّص حلقات الوسطاء وتخفض التكلفة، وقادرة كذلك على تشجيع أبنائها على الدخول في مشاريع صغيرة للمزارع والملاحم المحلية، بما يجعل اللحم الحلال أقرب من مجرد رف في متجر، وفي نفس الوقت لا غنى عن التنويه بأن الطعام الحلال ليس علامة تجارية أو رفاهية اختيارية، بل قيمة تستحق أن يُضحّى من أجلها بجزء من الراحة المادية، شريطة تجنب الإسراف والتكبر؛ وإذا كان الغلاء واقعًا، فإن التعاون والوعي الشرعي كفيل بتخفيفه، وكما أن الهوية لا تُصان بلا تكلفة، فإن التضحية في سبيل القيم أهون من فقدها. مسألة اللحم الحلال في الغرب، أبعد من مجرد فارق سعري؛ فهي معضلة قيمية واجتماعية.