في قلب الصحراء، تحت سماء نجد المرصَّعة بالنجوم، رفع الملك عبدالعزيز راية التوحيد. لكن هل وصلت قصة هذا الإنجاز بكامل عظمتها إلى أجيالنا؟ أم أن هناك فصولًا من تاريخنا السعودي أُغفلت أو ربما استُلِبت؟ رفع الملك عبد العزيز راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ثم نادى بأعلى صوته: «هلمّوا أيها الناس إلى كلمةٍ سواء نجتمع عليها ونكون بها صفًّا واحدًا متوحّدين أقوياء، بدلًا من أن نظل فرقاء ضعفاء سهلَي المنال لأي طامع». بمثل هذا المبدأ ارتفع العلم السعودي وسط صحراء نجد، حين كانت كل مدينة بمثابة دولةٍ مستقلة؛ فالرياض دولة، وعسير معزولة، والقصيم ناءٍ، والحجاز خارج الحسبة، وفي الشرقيةالأحساء والدمام، وجنوبًا نجران وجازان، وشمالًا سكاكا والجوف وتبوك. كانت الصحارى سهلة المنال لأي طامع، وكان أهلها يعانون مسغبة في العيش؛ فجوعٌ هنا وفقرٌ هناك وأمراضٌ تنهش، وقطّاع طرقٍ يسلبون الناس أموالهم. في هذه الأثناء خرج الملك عبدالعزيز على الجمال إلى منطقة نجد، وإلى الرياض تحديدًا، فجمع الكلمة، ووحّد الهجر والقرى والمدن والمناطق، فخلق كيانًا اسمه: المملكة العربية السعودية. ولم تتوقف الإنجازات عند هذا الحدّ في بلدٍ تتجاوز مساحته مساحة بريطانيا العظمى، بل امتدّت إلى إنشاء مؤسسات دولة، بحيث أصبح للشخص هويةٌ ووطنٌ، بعد أن كانوا شعوبًا متناحرة تتطاحن فيما بينها. بعد كل هذا الإنجاز، تسلّم الراية أبناء الملك عبدالعزيز، بدءًا من الملك سعود، إلى الملك فيصل، فالملك خالد، فالملك فهد، ثم الملك عبدالله، ثم الملك سلمان حفظه الله ورعاه. أُنجِزت رؤية عظيمة كان الكل، دون مبالغة، يصفها بالمثالية، بمعنى استحالة تحقيقها. لكن رجلًا اسمه محمد بن سلمان فعلها! كنا، كمواطنين، ننظر إلى واقعنا بشيء من الإحباط؛ فالبلد صحراويّ، طبيعته معادية للحياة، ودرجة الحرارة تصل إلى الستين أو الخمسين؛ فصيفٌ قاسٍ، وبلدٌ صحراويّ لا يبعثان على الأمل بتاتًا. لكن خرج ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وقال: «كفى، هذا الوضع يجب أن يتغير. سأزرع سبعة ملايين وتسعمائة ألف شجرة في مدينة الرياض وحدها، وسأغيّر المعادلة. بل أبعد من ذلك: سأصنع محميات بمساحة دولٍ مجاورة وأحوّلها إلى واحاتٍ خضراء». الجميع، دون استثناء، ذُهل. استمعنا لخطاب سموّه باندهاشٍ أقرب إلى الذهول منه إلى الفرح. لم نعتد على مثل هذا؛ فعندما نشاهد أفلامًا وثائقية عن جمال دول كسنغافورة نعلم أن بيننا وبين ذلك خرط القتاد، وسموّه يبشّرنا بأن أوروبا ستنتقل بواحاتها الغنّاء إلى قلب الصحراء. هذا ذهول لا يصدّقه عقل. ثم فاجأنا سموّه بمدينة نيوم، ثم مشروع البحر الأحمر، ثم توالت المفاجآت، وظهرت معالم هذه المشاريع على أرض الواقع، فشاهدها كل إنسان بأمّ عينيه، فعلمنا أننا أمام رجلٍ استثنائي اسمه محمد بن سلمان. استُلِب تاريخنا زمنًا طويلًا لصالح جماعاتٍ متأسلمة لا مسلمة، جماعاتٍ بدأت تظهر على السطح في بداية الثمانينيات كالفطريات السامة التي تغذي الجسد بسمٍّ زعافٍ يقضي عليه في مسألة وقتٍ لا أكثر. هذه الجماعات، عن قصدٍ وسبق إصرارٍ وترصّدٍ أحمق، أغفلت الأجيال عن حقيقة أن والد الملك عبدالعزيز كان آخر إمامٍ للدولة السعودية الثانية، الإمام عبدالرحمن بن فيصل، في محاولةٍ يائسة للإيحاء، وكأن الأمر لم يكن له امتدادا في التاريخ، لفصل الكيانين السعوديَّين الثاني والثالث، وكأننا في مملكة جديدة لم تغرس أطنابها في عمق التاريخ القديم والحديث. حوّلت هذه الجماعات المتأسلمة التركيز من الهوية السعودية الموحدة (التأسيس، التوحيد، الإنجازات الوطنية) إلى روايةٍ متأسلمة ترتكز على «الجهاد» والمعارضة للدولة، مما أدى إلى تشويه التاريخ في أذهان كثيرٍ من الأجيال اللاحقة وإضعاف الشعور بالانتماء الوطني. كان هؤلاء، بقيادة سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر، يستخدمون مصطلحاتٍ مثل «الخصوصية السعودية» في إيحاءٍ للأجيال بأن مفهوم الوطنية غير دقيق، وبأننا مسلمون نبحث عن الخلافة لا عن بناء دولةٍ قطرية يقودها آل سعود. جاب سفر الحوالي الأمصار منتقدًا جلب القوات الصديقة للمساعدة في دحر الغاشم صدام حسين عن الكويت، أملًا يائسًا في إضعاف الدولة. أما سلمان العودة فقد ساهم، عن سبق إصرارٍ وترصّد، في حملاتٍ لتشويه التاريخ والتقليل من العلماء الجهابذة والإسقاط عليهم بأنهم «علماء تقليديون»، للتقليل من دورهم في دعم الدولة، ودعا إلى حركاتٍ عابرةٍ للحدود. وشارك ناصر العمر في التصادم مع الدولة، مركّزًا على الكفر بالغرب في إيحاءٍ أقلّ ما يقال عنه إنه «تافه» بكفرية الدولة. كل هذا ساهم، بشكلٍ سافر، من قِبَل هؤلاء الطغام، في إضعاف الشعور الوطني والانتماء للوطن. فالوطن ليس حفنةً من تراب، بل دمٌ يسري في عروقنا.