حين قررت «أمازون» أن تقيس التفوق بالبقاء في المكاتب ساعات طويلة، بدا القرار منضبطًا في شكله، لكنه أنهك الموظفين وخنق الابتكار، حتى اضطرت الإدارة إلى مراجعته. النتيجة كانت واضحة: الحضور وحده لا يصنع الجودة. والسؤال هنا: هل يمكن أن يواجه التعليم المأزق نفسه إذا اختُزل الانضباط في «حضوري» إلى مجرد توقيع إلكتروني؟ في استطلاع محدود عبر تويتر شارك فيه نحو 140 من المعلمين والمعلمات، عبّر ثلاثة أرباع المشاركين عن خشيتهم من أن يكون «حضوري» عبئًا أكثر منه دافعًا للأداء. ورغم أن العينة صغيرة وغير ممثلة علميًا؛ إلا أنها تكشف عن قلق ميداني حقيقي: أن يتحول الحضور إلى غاية شكلية، وأن يفرض على المعلّم بقاء أطول من طلابه بلا مهام تستحق الانتظار، خصوصًا أن ساعات عمله الأسبوعية (35 ساعة) تتجاوز نصابه الفعلي بكثير. لكن الوزارة تنظر إلى المشهد من زاوية أخرى. فهي ترى أن الانضباط أساس الثقة المجتمعية، وأن الغياب – وإن بدا محدودًا – يترك أثرًا مضاعفًا على الطلاب والأسر وصورة المدرسة. كما أن وجود نظام رقمي مثل «حضوري» ينسجم مع جهودها في التحول الرقمي وربط البيانات (نور، مدرستي، حضوري) لبناء صورة واقعية عن الميدان، وإعطاء القادة التربويين أدوات شفافة لا تخضع للمحاباة أو الاجتهادات الفردية. المفارقة بين رؤية المعلّم والوزارة تطرح سؤالًا أعمق: هل الانضباط يقاس بالوجود الجسدي، أم بالأثر التربوي؟ التجارب العالمية تقدم دروسًا مهمة. ففي شركات النقل الكبرى مثل UPS وFedEx، لم تُخفض الحوادث بمجرد تشديد الرقابة على ساعات القيادة، بل حين طُبقت حلول ذكية تراعي الجداول الصحية وتدير التعب ارتفعت الإنتاجية وتراجعت الخسائر. الرسالة واضحة: الحضور وسيلة، وقد يتحول إلى قوة دافعة أو عبء خانق بحسب طريقة استثماره. مخاوف الميدان لا تتعلق فقط بطول الساعات. فالمعلمون يرون أن خصوصية مهنتهم قائمة على الجهد غير المرئي في التحضير والتصحيح والمتابعة. وإذا أُسقطت هذه الجوانب وأصبحوا موظفين إداريين بساعات ممتدة، فقد تفقد المهنة جاذبيتها. أما المعلمات، فغالبًا ما يقمن بأدوار أسرية مضاعفة، وزيادة ساعات دوامهن قد تدفع إلى اعتماد أكبر على السائقين والخادمات، بما يحمله ذلك من مخاطر على التربية والهوية الأسرية. والأخطر أن طول الدوام بلا مهام تستحق الانتظار قد يدفع بعض الكفاءات إلى مغادرة الميدان، تاركين التعليم أقل جذبًا للجيل الجديد. مع ذلك، فالصورة ليست سلبية تمامًا. فهناك من يرى في «حضوري» مكاسب مهمة؛ أبرزها حماية حق المعلم المنضبط، والحد من الغياب في أيام الخميس وما قبل الإجازات وبعدها، وتخفيف العبء عن الجادين، وإلغاء المحسوبيات وفزعات بعض المديرين، وتعزيز ثقة أولياء الأمور بأن أبناءهم يتلقون حقوقهم التعليمية كاملة. يبقى التحدي في أن يتحول «حضوري» من سجل جامد إلى أداة محفزة. الحل ليس في إلغائه ولا في الاكتفاء به كمؤشر معزول، بل في إعادة تصميمه كأداة ذكية تدعم عمل المعلم. فيكون حضوره قبل طلابه بربع ساعة وبعدهم بربع ساعة، وفق جدول عادل يراعي توزيع الجهد وفترات الراحة، ويُستثمر وجوده في المدرسة للإعداد، وتبادل الخبرات، والتطوير المهني، بدلًا من الانتظار السلبي. وعندها يصبح الحضور جزءًا من تقييم عادل يقترن بالأداء الفعلي، لا منفصلًا عنه. ولكي ينجح «حضوري» في أن يكون أداة تطوير لا عبئًا إداريًا، يمكن دعمه بخيارات عملية: ربط الانضباط بالترقيات والفرص التدريبية، استثمار فترات الانتظار في ورش قصيرة أو تعلّم ذاتي، وتحويل الالتزام إلى دافع عبر مكافآت معنوية أو أولوية في البرامج النوعية. المهم أن يدرك المعلّم أن حضوره ينعكس على قيمته المهنية وعلى طلابه، لا أنه مجرد رقم في نظام إلكتروني. الخلاصة أن «حضوري» ليس عبئًا في ذاته، ولا عصًا سحرية ترفع مستوى التعليم تلقائيًا. إنه أداة، وسيتحدد أثرها بمدى حسن تصميمها وتوظيفها. فإذا بقي مجرد تسجيل شكلي، فسوف يرهق الميدان ويفقد المهنة خصوصيتها. أما إذا استُثمر بذكاء ليعكس جودة أداء المعلّم ويعزز نجاح طلابه، فسيتحول إلى جسر بين الانضباط والإبداع، وبين حق الوزارة في الضبط وحق المعلّم في الإنصاف، وبين المدرسة كبيئة منظمة وجاذبة والطالب كغرس يستحق الرعاية.