في أول محاضرة لي مع طلاب الدكتوراه – وهم نخبة من المعلمين والمشرفين التربويين – طرحت سؤالًا واحدًا: «أين الخلل الذي جعلنا نتأخر في الاختبارات الدولية؟». انهالت الإجابات: ضعف طرق التدريس، قلة تدريب المعلمين، كثافة الفصول، نقص الإمكانات. لكن لم يذكر أحد كلمة «المناهج» إلا طالب واحد لا يشكل 5% من الحضور، عندها أدركت أن النار مشتعلة في قلب النظام، بينما أنظارنا تتجه إلى الأطراف، وأننا نعالج النتائج لا الأسباب، وأن أصل المشكلة أعمق من أن تُحل بزيادة زمن الحصص أو تكثيف البرامج التدريبية. بدأنا منذ عام 2007 مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم، ثم في عامي 2010 و2011 اعتمدت وزارة التعليم مناهج ماكجروهيل في الرياضيات والعلوم، وعمّمت مناهج اللغة الإنجليزية الحديثة على الصفوف الدراسية، وكان الأمل أن نحقق نقلة نوعية تجعلنا في مقدمة نتائج اختبارات TIMSS وPISA وPIRLS. لكن بعد أكثر من خمسة عشر عامًا ما زالت النتائج دون المأمول، ففي TIMSS 2019 لم يتجاوز متوسط الرياضيات للصف الرابع 398 نقطة، وهو أقل بكثير من المتوسط الدولي، البالغ 500 نقطة، وفي PISA 2022 لم يحقق سوى 30% من طلابنا الحد الأدنى في الرياضيات، مقابل 69% في دول الOECD، ونسبة المتميزين تكاد تكون معدومة. وماكجروهيل نفسها لم تكن قصة نجاح في موطنها الأصلي (الولاياتالمتحدة)، إذ لم ترتقِ بنتائج التعليم الأمريكي إلى مصاف الدول المتقدمة، والوزارة تدرك أن الدول التي تبنّت هذه المناهج لم تحقق أي تقدم يُذكر في مؤشرات التعلم الدولية، وإذا كان المنهج لم ينهض بنتائج من صمّموه، ولا بالدول التي سبقتنا إليه، فكيف نعوّل عليه لينهض بنا؟ أليس من الحكمة أن نبحث عن حلول أصلح لبيئتنا وثقافتنا؟ لم تناسبنا مناهج ماكجروهيل لأسباب عدة واضحة؛ فقد احتوت على كم معرفي ضخم يفوق الزمن المتاح، ولا يترك مساحة كافية للتعلم العميق الذي يبني الفهم ويطوّر المهارات. كما جاءت أمثلتها من بيئة غير محلية بعيدة عن واقع الطالب، وصيغت بلغة علمية ومصطلحات معقدة، فزاد العبء على المعلم والطالب في تبسيطها وتغطيتها. وعلى الرغم من أنها بُنيت على معايير الاختبارات الدولية، فإنها ركزت على الحفظ والمعرفة أكثر من مهارات التفكير وحل المشكلات. كما أنها كانت موحّدة للجميع دون أن تترك للمعلم مرونة تكييف الدروس وفق احتياجات طلابه وفروقهم الفردية. والمؤسف أن كثيرًا من قراراتنا الحالية ليست بعيدة عن قرار التعاقد مع ماكجروهيل، فما زلنا أحيانًا لا نقوم بتقييم دقيق للواقع قبل إصدار قرارات التطوير، ولا نبني خطواتنا على أسس علمية واضحة، ولا نمارس التشخيص العميق للمشكلة قبل اختيار العلاج، فيأتي الحل أحيانًا بحسن نية، لكنه يصنع مضاعفات جديدة تضيف أعباء على الميدان، وتبقي النتائج متواضعة، وهكذا ندور في حلقة مفرغة: ننتقل من مبادرة إلى أخرى، بينما جوهر الخلل لم يُمس بعد. إن مواد مثل الرياضيات والعلوم واللغة العربية والإنجليزية ومهارات التفكير تمثل الأساس الذي يلبي احتياج المتعلم العقلي، وهي مواد لا غنى عنها، لكن المطلوب أن نركز فيها على التعلم العميق (Deep Learning)، ونربط مفاهيمها بواقع الطالب وحياته حتى تحقق غايتها، لنأخذ الرياضيات مثالًا حيًّا: قد يحل الطالب عشرات المسائل المتشابهة في دفاتره، ثم تتبخر من ذاكرته مع نهاية الاختبار. أما لو طُلب منه أن يضع ميزانية حقيقية لمشروع صغير، يحسب فيها التكاليف، ويقارن بين الخيارات، ويستخرج نسبة الربح والخسارة، ويُعطى وقتًا كافيًا لذلك، فسيرى بأم عينيه أن الرياضيات ليست أرقامًا جامدة، بل أداة لفهم الحياة واتخاذ القرار. وقد رأينا في الأبحاث والتجارب البحثية – المحلية والدولية – أن ربط التعلم بحياة الطالب وتكليفه بمشروعات عملية حقيقية يرفعان مستويات التفكير العليا، ويعززان الاحتفاظ بالمعلومة، ويقللان القلق الأكاديمي، ويزيدان دافعية التعلم، وهذه الأدلة العلمية تجعلنا أكثر يقينًا أن الحل ليس في تكثيف الحفظ، بل في تعميق الفهم، وتحويل المعرفة إلى خبرة قابلة للتطبيق. أما ما عداها من مواد، فلا أرى أن تتحول إلى مقررات معرفية تثقل الجدول الدراسي، بل إلى مشروعات وأنشطة مرنة تصممها المدرسة والمعلم بما يتناسب مع احتياجات طلابهم النفسية والاجتماعية والجسمية، وتربطها باحتياجات المجتمع وتطلعات رؤية 2030، ثم تُقوَّم وتُطوَّر باستمرار، ويُحاسب القائمون عليها على جودة مخرجاتها، وبهذه الطريقة ننتقل من مجرد ملء عقول الطلاب بالمعلومات إلى تنمية شخصياتهم بشكل متكامل، فنحقق منافسة عالمية حقيقية، ونبني جيلًا واثقًا متوازنًا قادرًا على خدمة وطنه. ولا يمكن أن نغفل احتياجات مجتمعنا وقيمنا الوطنية، فغرس قيم الوطنية والمواطنة والولاء والانتماء لهذا الوطن العظيم لن يتحقق بمادة نظرية تضاف إلى الجدول، بل بتحويل المدرسة كلها إلى بيئة حية تعيش القيم، وتغرسها في سلوك الطلاب وممارساتهم اليومية. إن المركز الوطني للمناهج – على الرغم من جهوده الكبيرة – ما زال يعلن بين حين وآخر إضافة مادة جديدة أو زيادة محتوى معرفي آخر، وكأن المشكلة في نقص المعلومات، بينما جوهر الخلل في تنظيم المنهج الذي يكرّس الحشو المعرفي، وهذه السياسة راكمت الأعباء على الطلاب والمعلمين ولم تحقق النتائج المرجوة. إن مقصدي ليس انتقاد أشخاص أو الانتقاص من جهودهم، فحرص الوزارة والمركز الوطني للمناهج ظاهر، لكن من مسؤوليتنا الأكاديمية أن نضع أيدينا على موضع الخلل الحقيقي، فنحن بحاجة إلى تطوير المنهج وتنظيمه، وبحاجة إلى ربط التعليم بحياة الطالب واحتياجات مجتمعه، وتفعيل تقويم يقيس الفهم والمهارات لا الحفظ فقط، وتمكين المعلم ليكون مصمم تعلم يبدع في تحقيق الأهداف بدل أن يكون منفذ كتاب موحّد. لقد حان الوقت لأن نمتلك شجاعة القرار ونراجع المناهج مراجعة علمية شاملة، لا نكتفي بإعادة إنتاج الكتب نفسها أو إضافة مواد جديدة، نحن بحاجة إلى تطوير المنهج وتنظيمه بطريقة متوازنة، وربطه بحياة الطالب واحتياجات المجتمع، لنصنع تعليمًا يقود التنمية لا يتبعها، وهذا التغيير ليس ترفًا، بل ضرورة لضمان أن رؤية 2030 لا تقتصر على الاقتصاد فحسب، بل تشمل بناء الإنسان القادر على قيادة المستقبل.