من أوجع الصفحات التي حفظها لنا ياقوت الرومي في معجم أدبائه، تلك الرسالة التي وجهها شيخ أدباء زمانه «أبو حيان التوحيدي» إلى صاحبه القاضي على بن محمد، حين نمى إلى القاضي عزم أبى حيان على احراق كتبه في آخر عمره، فكتب اليه الصديق معاتبًا لائمًا.. كان أبو حيان قد أوفى على نهاية العمر، بعد أن خاض رحلة السنين شقيا مجهدًا. فقد كان أول ما وهبت له الحياة طفولة تفتقد حنان الأم ، وتفيض بضنك الرزق، ثم أنفق شبابه وحيدًا لا يجد له «ولدًا نجيبًا، وصديقًا حبيبًا، وصاحبًا قريبًا، وتابعًا أديبا، ورئيسًا منيبًا». واحترف حرفة من أكثر الحرف إثارة للملل وإرهاقًا للبصر، وتلك هي حرفة «الوراقة»، أو نسخ الكتب للأدباء والمتأدبين، وقد يكون ذلك الذى طلب فيه نسخ كتاب من الكتب جاهلًا أو مدعيًا، أو واحدًا من أهل الثراء والوجاهة الذين يظنون أن وجاهتهم لا تكتمل إلا باقتناء الكتب واكتناز نفائس التصانيف. وكان من البديهي أن يلوذ أبو حيان - كعادة أدباء زمانه - بأهل الوجاهة الاجتماعية مادحًا أو نديمًا، ولكن يظهر أن أديبنا كان سيء المظهر حاد الطبع، فلم ينل من هؤلاء الوجهاء إلا الزراية والعناء. وكان أثقله وطأة عليه وجيهين اشتهرا بالأدب وبرعا في الحفظ والرواية. وهما ابن العميد والصاحب بن عباد. وظلت الحياة تعطى أبا حيان قليلا وتمنعه كثيرًا حتى بلغ التسعين. فنظر وراءه عندئذ في سخط واستغفار الله - كما يقول - أيامًا وليالي، حتى أوحى إليه في المنام بما بعث راقد العزم وأجد فاتر النية وأحيا ميت الرأي.. وعندئذ أعلن عن نيته، فتلقى رسالة صديقه العاتبة اللائمة. ورد أبو حيان على صديقه برسالة طويلة، تنبض مرارة وحزنًا. يشرح فيها ما استقر عليه رأيه وينفض فيها بثه وحزنه، ويؤكد فيها عزمه النافذ. يقول أبو حيان في مطلع الرسالة إن كتبه تلك قد حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، ولعله يقصد بالسر فنون الفلسفة. وبالعلانية فنون الأدب وأما الفلسفة أو الحكمة فلا جدوى منها. إذ أنه لم يجد من يتحلى بحقيقة هذه العلوم راغبًا، وأما الجانب الممثل للعلانية من كتبه فهو لم يجد من يعرض عليه طالبًا، فكان الناس عنده لا يريدون حكمة تنير عقولهم أو أدبًا يحسن أذواقهم. ويحاكم أبو حيان نفسه في آخر أيامه سائلًا إياها لم آثرت الكتابة على غيرها من الحرف، ويكون جوابه دون مواربة أنه كتب كتبه طلبًا للشهرة بين الناس، وليكون له عندهم جاه ومال. وذلك مطلب زائف، وإن كان لم يتحقق. 1978* * شاعر وكاتب مصري «1931 - 1981»