في المنطقة الرمادية حيث يلتقي النقص بالاكتفاء، وتصدم الأحلام بجدار الواقع، يقف الإنسان حائرًا بين ما امتلكه وما حلم به. هنا، في هذه المساحة الوجودية، يتشكل وعيه، وتُرسَم خرائط سعادته أو تُحفر أخاديد شقائه. وتتسع دائرة الحيرة لتحيط به من كل جانب. في قلب هذه الحيرة يكمن سر خفيّ، لا يكتشفه إلا من ذاق مرارة الفقد أو اغترف من نبع الرضا. تأمّل لحظة خسارة شيءٍ عزيز، ألم تكن تلك الخسارة مفتاحًا لباب جديد من الفهم؟ وانظر إلى لحظة امتلأت فيها بالرضا. ألم يخالطها خوفٌ خفي من الزوال؟ من هذا التداخل بين الفقد والكمال، بين الألم والرضا، تتضح صورة الحياة كاملة: فرحٌ يتخلله وجع، ونقصٌ يجاوره اكتفاء وكمال لا يكتمل أبدًا. وهنا تنقسم مسارات الرؤية: فمَن ينظر من خلال ثقب ضيّق يغشى عينيه طيف ما فات ويكتنفه ظل النقص، فيرى الشوك قبل الورد، ويلمس الحياة فتترك في يديه الخدوش قبل أن تمنحه دفئها؛ أما آخرون، فهم يرون العالم بعيون مبتهجة. لا ينكرون وجود العتمة، لكنهم يملكون البصيرة لرؤية شمعة مضيئة في أقبية اليأس. إنهم صيّادو الجمال في صحراء القحط، ومنقّبو الذهب في طين الأزمات، وحياتهم مغامرة دائمة لاكتشاف بذور الأمل بين صخور المصاعب. إذن المسألة ليست مجرد اختلاف في المزاج أو تفاوت في درجات التفاؤل والتشاؤم بل هي في جوهرها قدرة على الاختيار. اختيار أن نملأ فراغ قلوبنا وأذهاننا بالوعي والحكمة، قبل أن نملأه بما نلاحقه من أمنيات عابرة. هنا فقط نفهم مغزى الحكاية القديمة التي اختزلها الناس في صورة نصف الكوب الممتلئ والفارغ.