في أمة تُبنى بالعزائم وتنهض بالتكافل، يظل الدم رمزًا للحياة قبل أن يكون مادةً بيولوجية تسري في العروق. وحين أطلق سمو ولي العهد - حفظه الله - حملة التبرع بالدم، كانت الدعوة أوسع من إجراء صحي، إذ تحولت إلى مشاركة وطنية تتجاوز المستشفيات، لتدخل كل بيت، وتصل إلى كل ضمير، مذكّرة الإنسان بإنسانيته، وداعيةً إلى أن يفتح قلبه لغيره في لحظة قد تكون فاصلة بين الموت والحياة. وباعتقادي يتخطى المشهد حدود الطب إلى رمز أشمل، فكما يحمل الدم الغذاء والأكسجين للجسد، تحمل هذه الحملة روح التضامن لجسد المجتمع السعودي، لتكون وباختصار تجسيدا عمليا لرؤية المملكة التي تجعل من الإنسانية أساسًا، ومن الإنسان محورًا للتنمية وغايتها. وفي ذاكرة الأمم ما يخلّد القادة ليس ضجيج الخطابات ولا كثرة الأوامر، وإنما المبادرات التي تلامس وجدان الناس. ومن يتأمل خطوات ولي العهد يجدها تمضي في هذا الطريق: تحويل الشعارات إلى أفعال، وتقريب الدولة من الفرد عبر نبض أخلاقي يلمسه المواطن والمقيم على حد سواء، وحملة التبرع بالدم إحدى العلامات التي وضعت الدولة في موقع القلب، وفي موقع القدوة أيضًا. وللتبرع بالدم دلالات راسخة في تاريخ الشعوب، ففي أوروبا ارتبط بمقاومة الحروب، وفي أمريكا صار جزءًا من ثقافة المسؤولية الاجتماعية، وفي الشرق غدا مرادفًا للعطاء الخالص. أما في السعودية فقد اكتسب بُعدًا خاصًا، لأنه جاء في زمن إعادة تشكيل المجتمع برؤية جديدة تجعل من كل فرد شريكًا في البناء، وحين يمدّ المواطن ذراعه ليتبرع، فهو لا ينقذ مريضًا فقط، بل يعلن انتماءه إلى عقد اجتماعي غير مكتوب: حياتي0 جزء من حياتكم، وعافيتي لن تكتمل إلا بعافيتكم. ولعل أجمل ما في هذه الحملة أنها أزالت الحواجز بين الطبقات والفئات، فلا فرق بين متبرع ثري أو طالب أو عامل، فالدم لا يعرف الألقاب، ولكنه يعرف قيمته فقط حين يتدفق في جسد محتاج. وفي تلك اللحظة النادرة، تتجسد المساواة وتختصر العدالة في أبسط صورها: قطرة تنقذ إنسانًا، وعندها تذوب الحدود المصطنعة، ويظهر الوجه الحقيقي للوطن المتماسك. وفي زمن تتسارع فيه أخبار النزاعات والكوارث، يطل هذا المشهد ليعيد تعريف البطولة التي لم تعد حاضرة في رفع السيف ولا في إطلاق الرصاص بقدر ما هي موجودة في إمداد مريض بفرصة حياة، وهذا ما يمنح الحملة بُعدًا ثقافيًا يتجاوز المجال الطبي، لتغدو ثقافة جديدة يراد لها أن تسري كما يسري الدم ذاته: ثقافة تجعل التضامن نهجًا مستمرًا لا موسمًا عابرًا. قد يقال إنها حملة صحية تُنظم كل عام. غير أن الفارق هنا يكمن في الدلالة حين يقودها ولي العهد بنفسه، فتتحول من نشاط روتيني إلى رسالة وطنية جامعة، فالقائد لا يكتفي بالدعوة، وإنما يشارك ليجعل من الفعل قدوة ومن القدوة سلوكًا عامًا، وهكذا تترسخ القيم حين تبدأ من الأعلى لتصل إلى الجميع، ومن يتأمل المملكة اليوم يدرك أن هذه الحملة ليست حدثًا عابرًا، فهي جزء من نسق متكامل، حيث تمضي التنمية الاقتصادية جنبًا إلى جنب مع التنمية الاجتماعية، فكما تُبنى المدن الذكية وتُقام المشاريع الكبرى يُبنى أيضًا جدار أخلاقي يحمي المجتمع من الفردانية والانعزال، والدم الذي يُعطى طوعًا هو التعبير الأصدق عن هذا الجدار. وفي النهاية، يظل التبرع بالدم صورة من صور الوفاء للوطن والإنسانية، وحين يقترن بسمو ولي العهد، فإنه يتحول إلى علامة مضيئة في مسار يرسم ملامح السعودية الجديدة.. السعودية التي تريد أن تكون حاضنة للحياة، ومصدرًا للأمل، ووطناً لا يترك أحدًا خلفه، ومن هنا يصبح الدم رسالة مكتوبة بلغة إنسانية صافية: كل قطرة تساوي حياة، وكل حياة تساوي وطنًا.