تابعت الأسبوع الماضي إحدى حلقات بودكاست «لتطمئن» والتي تحدث فيها الدكتور هادي العنزي بشغف عن «مفهوم الصحة السكانية، والتحول في دور التأمين الطبي من مجرد جهة تغطي فواتير المرضى، إلى شريك استباقي في الحفاظ على صحة الناس». ولعل أبرز ما شدني في حديثه تأكيده أن « الاستثمار في الوقاية ونمط الحياة الصحي، لا يقل أهمية عن بناء المستشفيات، وتجهيز غرف العمليات»، ولعلي أضيف أنه ربما يفوقها أثراً في صحة المجتمع. هذه الفكرة البسيطة ظاهرياً تسلط الضوء على واحدة من أكبر الإشكاليات في عالمنا اليوم: لماذا لا يزال جل تركيز التأمين الطبي محصوراً في دفع تكاليف العلاج بدلاً من أن يكون أحد اللاعبين الرئيسيين في منع المرض؟ مع أننا في السعودية ننعم بتوفر الخدمات الصحية للمواطنين بصورة مجانية، إلا أن كثيراً من الناس حول العالم يحملون هماً لا يفارقهم: ماذا لو مرضت؟ تكاليف الرعاية الصحية باتت معضلة كبرى حتى في أغنى دول العالم، وهذا من الدوافع الرئيسة التي دفعت السعودية عبر رؤيتها الملهمة 2030، لبدء التحول في القطاع الصحي والذي حقق كثيرا من مستهدفاته، وما زال الإنجاز مستمرا بوتيرة متسارعة. ولعل تقرير منظمة الصحة العالمية الذي أشار إلى أن حوالي 100 مليون شخص يدفعون سنوياً نحو الفقر لا لشيء، سوى النفقات الطبية التي تثقل كاهلهم ولا يوجد من يتحملها عنهم، كالتأمين على سبيل المثال. وهنا يعود التساؤل عن دور التأمين الطبي والذي حصر لعقود في دفع الفواتير لا في الحفاظ على صحة الإنسان من الإصابة بالمرض. حين نراجع العقود التأمينية نجدها قائمة على معادلة بسيطة، فالمؤمن أو جهة التوظيف التي ينتمي لها تدفع قسطاً محدداً، وشركة التأمين تتعهد بدفع تكاليف علاجه إن مرض. في ظاهرها معادلة منصفة لكنها في جوهرها معيبة لأنها تخلق علاقة سلبية بين الإنسان وصحته. وتجعل شركات التأمين في موقع الدفاع لا الهجوم. فالأرباح فعلياً لا تأتي إلا من تقليل الحصول على الخدمات الصحية، والمريض لا يشعر بقيمة التأمين إلا إذا مرض. وهنا نكون كمن صنع نظاماً لا يربح فيه أحد، لا المؤمن الذي يظل قلقاً، ولا الشركة التي تواجه استنزافاً مالياً مستمراً، ولا المجتمع الذي تتفاقم فيه معدلات الأمراض المزمنة عاماً بعد عام. المعضلة تتعمق أكثر حين ننظر إلى ما يجري داخل عيادات الأطباء، ففي حالات كثيرة يقف الطبيب حائراً أمام مريض يحتاج إلى إجراء تشخيصي مهم أو دواء متطور، لكنه يعلم مسبقاً أن التأمين سيرفض تغطيته باعتباره «خارج مزايا الوثيقة» أو «غير مبرر» بحسب شركة التأمين. مشاهد المرضى أو عوائلهم الذين ينتظرون موافقة التأمين وهم يتنقلون ما بين مكتب الشركة وعيادة الطبيب لتوفير مبررات ترضي الشركة للموافقة، باتت جزءًا من المشهد اليومي. حتى الأطباء يشعرون بأنهم مكبلون بقيود لا علاقة لها بالعلم ولا بأخلاقيات المهنة، بل ببيروقراطية مفرطة تبحث عن تقليص المصاريف بأي ثمن. وفي نهاية المطاف الكل يعاني، المريض الذي لا يحصل على الرعاية التي يحتاجها أو يحصل عليها بعد معاناة تضاف لمعاناة مرضه، والطبيب الذي ينتزع منه القرار الطبي، وشركة التأمين التي لا ترى سوى الأرقام. ماذا لو أعدنا تعريف العلاقة وتحولت شركات التأمين إلى شريك حقيقي في رحلة الإنسان نحو صحة أفضل، لا مجرد جهة تنتظر مرض الإنسان لتعوضه عن تكاليف علاجه. الفكرة ليست ضرباً من الخيال أو مثالية غير قابلة للتطبيق، بل مدعومة بأرقام وأبحاث قوية تؤكد جدوى الاستثمار في الوقاية. فمثلاً وكما تؤكد الأبحاث أن 80 % من الأمراض المزمنة يمكن الوقاية منها بتحسين أنماط الحياة، وأن كل ريال يستثمر في الوقاية يعود بثلاثة إلى خمسة أضعافه في توفير التكاليف العلاجية. وفي اعتقادي أن شركات التأمين لو أرادت فإنها تمتلك من الأدوات ما يمكنها من قيادة هذا التحول. بالتأكيد الطريق لن يكون مفروشاً بالورود، فالتحديات كبيرة، لعل أبرزها ضعف وعي الناس بأهمية الوقاية وجدواها، بالإضافة للقوانين التنظيمية التي ربما تحتاج لإعادة صياغة ومواءمة، وكذلك مقدمو الخدمات الصحية الذين لا يرون في الوقاية مصدر ربح كما هي الحال في التدخلات العلاجية. مع ذلك فإن تفاقم مشكلة ازدياد تكاليف الرعاية الطبية، والمعضلة الأخلاقية التي يواجها مقدمو الرعاية الصحية والتي أصبحت واقع المنظومة الصحية، يجعل من الضروري إعادة النظر. بالتأكيد هناك مبادرات مختلفة من شركات التأمين لدعم هذا التوجه لكنها لا زالت محدودة أو ذات أثر محدود. في اعتقادي حين نتحدث عن المستقبل يجب ألا يكون التركيز على مدى إمكانية شركات التأمين الطبي أن تصبح شريكاً في الصحة، بل متى وما تلك الشركة التي ستأخذ زمام المبادرة وتبدأ عجلة التغيير الجذري في وطننا الغالي؟. فالأكيد أن الشركة التي ستنجح في تحقيق هذه القفزة ستكسب ليس من الناحية المالية، بل من حيث تحسين صحة الإنسان ورضا الناس، وإعادة بناء الثقة في منظومة التأمين الطبي.