في مشهد الأعمال، الذي يتسارع إيقاعه بلا هوادة، غالبا ما تتجه بوصلة الشركات نحو استقطاب المواهب الشابة، مدفوعة برغبة في التجديد ومواكبة أحدث التطورات. وفي غمرة هذا الاندفاع، قد تغيب عن الأفق قيمة الموظفين القدامى والمخلصين، أولئك الذين بنوا صروح المنشأة، وأرسوا دعائمها على مدى سنوات طويلة. بيْد أن التخلي عن هذه الكنوز البشرية، أو حتى إهمالها، لا يمثل مجرد قرار إداري عابر، بل قد يرقى إلى خطأ إستراتيجي فادح، يهدد استمرارية الكيان المؤسسي ذاته. فهؤلاء الموظفون ليسوا مجرد أرقام في كشوف الرواتب، بل هم ذاكرة المؤسسة الحية، ومستودع الخبرات المتراكمة، ومنجم الحكمة العملية التي لا تقدر بثمن، والتي إذا ما أحسن توظيفها، غدت قوة دافعة للنمو المستدام والابتكار الحقيقي. عندما يبلغ الموظفون المخلصون مرحلة عمرية تتراجع فيها قدرتهم البدنية، بينما تظل ملكاتهم الذهنية وخبراتهم العملية في أوجها، يصبح من الحكمة المؤسسية -حينئذ- منحهم فرصا للانتقال إلى مسارات مهنية جديدة تتناسب مع قدراتهم المتجددة. فبدلا من تكليفهم بمهام تتطلب جهدا بدنيا شاقا، يمكن تحويل مسارهم بذكاء نحو الأدوار الذهنية البحتة التي تعتمد على الخبرة العميقة والمعرفة المتراكمة، مثل مهام التدريب والتوجيه، أو الإشراف الاستشاري، أو حتى الإسهام في وضع الإستراتيجيات العليا. هؤلاء الرواد يمتلكون فهما استثنائيا لثقافة الشركة، وإدراكا عميقا لتحدياتها التاريخية والحالية، ما يمكنهم من تقديم رؤى وحلول لا يمتلكها الموظفون الجدد، مهما بلغت كفاءتهم الأكاديمية. وبالتالي، بدلا من دفعهم نحو التقاعد المبكر أو استبعادهم بشكل غير حكيم، يحسن بالشركات أن تستثمر في هذه الخبرات القيمة عبر تمكينهم من قيادة الأجيال الجديدة وتوجيهها. من أبرز التحديات التي تواجه سوق العمل اليوم هي تلك الفجوة بين الخريجين الجدد وبين متطلبات الوظائف، حيث يجد العديد من الشباب، على الرغم من مؤهلاتهم الأكاديمية المتميزة، صعوبة بالغة في الحصول على فرص عمل لائقة بسبب «نقص الخبرة»، وهنا يأتي دور الموظفين الخبراء كجسر حقيقي يسد هذه الفجوة. فإذا ما تبنت الشركات نموذجا يعتمد على توظيف وتدريب الكوادر الشابة تحت الإشراف المباشر والمكثف للموظفين القدامى، سيقل الاعتماد على «الخبرة المسبقة» كشرط أساسي للتوظيف بشكل كبير. عندما يُمنح الجيل الأكبر دور المرشد والمعلم والموجه، ويتقبل الجيل الأصغر هذه الرعاية، سيشعر الأخير بضغط أقل لمحاولة مطابقة معايير الخبراء على الفور. وبدلا من السعي الحثيث لتحقيق مستوى خبرة قد يتطلب سنوات طويلة، سيكون لدى الشباب الحرية والمرونة الكافية لتطوير مهاراتهم بشكل تدريجي، ووضع معاييرهم الخاصة للنجاح، وهو ما يضمن تجديدا مستمرا للأفكار والأساليب داخل الشركة، دون المساس بالقيم الأساسية التي قامت عليها. المنشآت التي تحقق التوازن الأمثل بين استثمار الخبرة المتراكمة لدى موظفيها القدامى وبين استيعاب الطاقة المتجددة والأفكار المبتكرة للشباب هي التي تكتب لنفسها قصة نجاح مستدامة. فعندما نستثمر في الموظفين القدامى، لا نحافظ على المعرفة المؤسسية القيمة فحسب، بل نخلق بيئة عمل صحية ومحفزة يتعلم فيها الشباب من تجارب وخبرات السابقين، بينما يقدمون بدورهم رؤاهم وأفكارهم المبتكرة التي تدفع عجلة التطور. لعل أخطر ما يمكن أن تواجهه الشركات جراء التخلي عن موظفيها القدامى والمخلصين هو تحويلهم إلى منافسين أشداء. فالتاريخ يزخر بالعديد من الحالات التي تحول فيها موظفون مهملون أو مستبعدون إلى قوى تنافسية عاتية. هؤلاء الأفراد، الذين يمتلكون معرفة دقيقة بنقاط الضعف داخل المؤسسة الأم، ويدركون خبايا السوق وأسرار الصناعة، يمكنهم توظيف هذه الخبرات لمصلحة منشآت منافسة قائمة، أو حتى إنشاء مشاريع جديدة تنافس المنشأة الأم بشكل مباشر. هذا التحول من الولاء إلى المنافسة ليس مجرد خسارة لموظف، بل هو تسريب للمعلومات الحساسة واستثمار للخبرات ضد مصالح المؤسسة. ختاما، الشركات التي تحترم وتقدر وتستفيد بحكمة من خبرة موظفيها المخلصين هي تلك التي تستمد قوتها من تراكم الأجيال، وتبقى وتزدهر عبر الزمن في مواجهة التحديات المتغيرة. لذلك، قبل أن تتخذ أي قرار الاستغناء عن موظف قديم أخلص لسنوات طويلة، تذكر أنك قد تفقد أكثر من مجرد فرد في فريق العمل؛ قد تفقد جزءا لا يتجزأ من ذاكرة الشركة المؤسسية، وعمادا أساسيا من قواعد نجاحها المستقبلي. فهل تستعد المنشآت لتقدير هذا الكنز البشري والاستثمار فيه بوعي وحكمة؟