لطالما ارتبط السفر بفكرة الهروب من المألوف، والانغماس في عوالم جديدة تُشعل الدهشة وتُنعش الروح، كنا نعدّ الأيام، نُجهز الحقائب بشغف، ونحمل معنا توقًا لاكتشاف ما لا نعرفه، لكن شيئًا ما تغيّر، بات كثيرون يشعرون بأن بهجة السفر تلاشت، أو على الأقل لم تعد كما كانت.. فما الذي حدث؟!. السفر الذي كان يومًا ما تجربة شخصية نابضة، تحوّل في السنوات الأخيرة إلى نشاط استهلاكي مكرّر، تكرار الوجهات ذاتها، وازدحام الأماكن «الشهيرة» واللهث خلف الترندات، وتشابه المدن الكبرى تحت وطأة العولمة، جعل من التجوال حول العالم كمن يتنقل بين نسخ مختلفة من المدينة ذاتها. لم تعد هناك مساحة للدهشة، نعرف مسبقًا كيف يبدو كل شيء: الشوارع، المقاهي، المناظر.. كلها قد مرت على شاشات هواتفنا آلاف المرات قبل أن نصلها، شبكات التواصل الاجتماعي، رغم ما قدمته من إلهام وسهولة في الاستكشاف، سلبتنا أهم ما في السفر «إحساس الاكتشاف الأول». في الماضي، كنا نعيش اللحظة، نتأمل التفاصيل، وندع للذاكرة دورها في الاحتفاظ بما نحب، أما اليوم، فالكثير منّا بات يسافر للهاتف لا للروح.. نلتقط الصورة، نعدّلها، ننشرها، نراقب التفاعل.. فيغيب الحضور، وتتحول الرحلة إلى مشروع إنتاج محتوى بدلًا من أن تكون رحلة حياة. هذا الانشغال المستمر بالتوثيق يُفرغ اللحظة من معناها، نُشاهد الغروب عبر عدسة الكاميرا بدلًا من أعيننا، نركض خلف «زاوية تصوير مثالية»، ونغفل عن جمال المشهد ذاته، ومع الوقت نفقد الإحساس الأصلي بالمتعة، ونعود من السفر وقد وثقنا كل شيء، لكن لم نعِش شيئًا فعليًا. ليس من الإنصاف أن نُلقي اللوم على وسائل التواصل فقط، قد يكون أحد أسباب تلاشي بهجة السفر هو تغيّرنا نحن، مع مرور السنوات تصبح الراحة أولوية، ويحل الاستقرار محل المغامرة.. نبحث عن الهدوء أكثر من المفاجآت، وعما يشبهنا لا ما يختلف عنا.. ولعل ما زاد من تراجع بهجة السفر أيضًا هو تعقيد التجربة الازدحام، التكاليف، التأشيرات، التوترات السياسية.. جميعها تضيف طبقات من الإرهاق إلى ما كان يُفترض أن يكون هروبًا من الضغوط. رُبما علينا أن نُعيد تعريف السفر، أن نعود إلى جذوره الأولى: تجربة شخصية، هادئة، لا تتطلّب التوثيق الدائم، ولا تحكمها المقارنات أو التوقعات، ربما علينا أن نُسافر من أجل أنفسنا، لا من أجل المتابعين، وأن نترك بعض اللحظات بلا عدسات، كي تبقى حيّة فينا أكثر من أي منشور، بهجة السفر لم تختفِ تمامًا، لكنها أصبحت أعمق، وأقل صخبًا.. تحتاج منا جهدًا لاستعادتها.. وربما قدرًا من الصمت.