من بعيد نبدو كالذين يمتلكون مفاتيح كل شيء، هادئين، متزنين، نُحكم السيطرة على تفاصيل حياتنا. لكنّ الاقتراب يكشف ما لا يُرى: تصدّعات صامتة، وتعبٌ يتسلّل بهدوء. في زحام الأيام، وتحت وطأة المسؤوليات والمواعيد المتلاحقة، ننشغل بترتيب الخارج، ونغضّ الطرف عمّا يعيث فينا من فوضى. نركض خلف الإنجاز تلو الآخر، دون أن ننتبه لما يتساقط منا في الطريق: شغفٌ انطفأ، ولهفةٌ ذبلت، ونبضٌ كان يومًا حيًّا. في العرف السائد، الشيخوخة تبدو حدثًا جسديًا: شعر أبيض، ظهرٌ منحني، خطوات ثقيلة. لكنها في حقيقتها، قد تبدأ في سنٍ مبكرة، دون أن تترك أثرًا في الملامح. إنها لا تُقاس بعدد الشموع المنطفئة على كعكة الميلاد، بل بعدد كم ألمًا أطفئنا وحدنا دون أن يلاحظ أحد. نشيخ حين نفقد قدرتنا على الدهشة، على الحلم، على الإحساس. نشيخ حين تصبح الحياة أداءً روتينيًا لا طعم له، حين نصمت بدلاً من البوح، وحين نخبّئ أحلامنا تحت سجادة «الواجب» و«النضج». ما يجعل هذه الشيخوخة أكثر قسوة أنها غير مرئية. لا تلتقطها عدسات الكاميرا، ولا تظهر في نتائج التحاليل، لكنها تنخر أرواحنا ببطء. تغتال فينا شيئًا فشيئًا ما يجعلنا أحياء: وهج الأحلام، بهجة التفاصيل، ولهفة الانتظار. نشيخ، حين نمرّ على الأماكن التي أحببناها، ولا يخفق القلب. حين نحضن أوجاعنا كي لا نُثقل بها من نحب. حين نتقن فنون المجاملة بدلًا من العفوية، ونُراعي الآخرين على حساب أنفسنا، حتى نكاد ننسى ملامحنا الأصلية. والمفارقة أن المجتمع كثيرًا ما يُكافئ هذا النوع من «الشيخوخة المبكرة» فيسميها نضجًا، اتزانًا، حكمة. بينما هي - في عمقها - فقدانٌ بطيء للذات، وهجرةٌ داخلية إلى مناطق الرماد. نذبل يوم أجّلنا الحلم بحجّة «ليس الآن»، وتركنا صفحاتنا بيضاء خوفًا من الخطأ. يوم اعتذرنا لأنفسنا ألف مرة عن البوح، واخترنا الصمت كوسيلة للبقاء. يوم اعتقدنا أن النضج يعني كتمان الألم، لا معالجته. نذبل حين نُجامل كي لا نخسر، ونتنازل كي لا نُتّهم بالأنانية، ونخفي هشاشتنا خلف قناع القوة. وهكذا نُطفئ شغفنا بأنفسنا قبل أن تطفئه شفاه الزمن. لهذا يصبح الرفق مطلبًا ملحًّا، في عالم يُثقلنا بالمقارنات، ويقيس النجاح بالماديات، فكل من نلقاه يحمل في قلبه حكايات مجهولة، وتعبًا غير منطوق، وشيخوخةٍ لا تظهر في المرايا.