في عصر غابر، قبل أن يستولي الذكور الأشرار على اللغة وثقافة المجتمع، قامت إمبراطورية عظيمة مترامية الأطراف تحكمها النساء، ضمن سياق اجتماعي وثقافي يضطهد الذكورة ويقصيها ويجبرها على الركوع والانصياع للمرأة القوية. في عالم زاخر بالحروب المتواصلة بين الرجال والنساء كانت الغلبة دائما للنساء قبل أن يقلب الذكور الطاولة على الإناث ويسيطروا على سلاح اللغة ويستأثروا بتفسير النصوص المقدسة وينقلب حال المرأة القوية بفعل أدوات الثقافة رأسًا على عقب. هذا العالم المتخيل الذي تحكمه النساء يدلل أن ثمة أنثى طبيعية أو بيولوجية قد تحولت لاحقا إلى امرأة خاضعة ومضطهدة اجتماعيا بفعل الثقافة الذكورية وسلطة اللغة. انجذبت النظرية النسوية لهذه الفكرة المجنونة بوجود أصل مفقود ومكانة مسلوبة في عالم افتراضي يزخر بالحروب الثقافية الطاحنة يجب استرداده في الحضارات الغابرة لإثبات أن تاريخ اضطهاد النساء عرضي وطارئ. وكل نساء العالم اليوم ليسوا سوى منتجات ثقافية، وكما تقول الكاتبة النسوية الفرنسية لوسي إيغاري إن: «المرأة لا جنس لها» أو كما تقول سيمون دي بوفوار: «المرأة لا تولد امرأة بل تصبح كذلك» بمعنى أن المرأة صفحة بيضاء وكيان محايد وسلبي يمكن بناؤه ثقافيًا وفق رغبات الذكور وتحيزاتهم. وفي خضم المعركة الثقافية الطاحنة بين الذكورة والأنوثة، شرع أنصار الأنوثة للبحث في أوراق التاريخ، عن عالم قديم محكوم بواسطة النساء، ليبرهنوا على أن المرأة ليست سوى «جندر» أو نوع اجتماعي مصطنع، والبيولوجيا وإن كانت قضاءً وقدرا ومهما بلغت من الاستعصاء لا تستطيع إنكار أن المرأة مجرد نوع اجتماعي يمكن تشكيله وفق رغبات الذكور الأشرار، وأن الأنوثة مجرد مؤامرة صنعوها لإخضاع النساء في معاركهم الثقافية بعد أن سرقوا سلاح اللغة ووظفوه في خدمة مصالحهم. ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، أصبح عابقا برائحة الذكورة الفجة المتسلطة بعدما أحرق الذكور أي مصادر تاريخية تشهد بوجود ممالك عظيمة تحكمها النساء، وحجبوا كل الشواهد التاريخية بوجود عوالم منسية كانت خاضعة للنساء. ولكن أنصار الأنوثة لم يستسلموا في معاركهم الطاحنة ضد الذكور الأشرار، فقرروا أن يحاربوا الذكورة في عقر دارها وبسلاحها الفريد «اللغة». وقبل كل شيء بحثوا وسط أوراق التاريخ عن حضارة منسية عاشت فيها تلك المرأة العابرة للثقافات ذات الكيان المحايد الذي لم يدنس بمكر الذكورة. في سبيل البحث عن حضارة منسية محكومة بواسطة جيش من النساء، ظهر للوجود مفهوم «الجندر» أو النوع الاجتماعي الذي يفترض أن الأنوثة والذكورة مجرد منتجات ثقافية، ودراسة النوع الاجتماعي وصلت مرحلة من التطرف حد الاعتقاد أن العلاقة الزوجية ليست سوى علاقة جندرية بمعنى أن الاختلاف الجنسي هو نتاج ثقافي واجتماعي، وبالتالي يمكن التسامح مع أي علاقات خارج إطار الزواج باعتبار أن العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة هي علاقة مجندرة من البداية. الإيمان بالهوية الجندرية تعني قناعة الشخص الثابتة بانتمائه لواحد من الجنسين، هذه القناعة مجرد انطباعات ثقافية تشكلت في مرحلة الطفولة، ويمكن رد الفوارق بين الذكر والأنثى إلى النوع الاجتماعي وما يترتب عليها من أدوار وسمات وعلاقات وصور، فلا توجد أي صفة بيولوجية تنفرد بتحديد الشكل الذي ستتخذه الأنثى البشرية في قلب المجتمع، وكل العلاقات الجنسية المثلية ما هي إلا مجرد علاقة جندر مع جندر آخر. ويمثل الجندر القلب النابض للنظرية النسوية الحديثة الذي تتشعب منه كل الدراسات النسوية، فما يعرف بالدراسات الجندرية أو النسوية أو الإجناسية مفاهيم تؤكد أن الأنوثة والذكورة بالمعنى البيولوجي منفصلة عن البنية النفسية والأدوار الاجتماعية للأفراد. فالتربية الاجتماعية هي المحدد الرئيس، والثقافة تلعب الدور الحاسم في تكوين النفسية الأنثوية والذكورية بغض النظر عن الطبيعة العضوية. مفهوم الجندر والنظرية النسوية يمثلان الأساس المعرفي الذي ترتكز عليه حجج وإثباتات منظمات حقوق المثليين في سعيها لتطبيع العلاقات المثلية، والمشكلة أن النظرية النسوية ومفهوم الجندر يلقيان رواجًا كبيرًا في الأوساط الأكاديمية والأدبية وتقدم بوصفها نظرية علمية قادرة على الوصف والتفسير.