جلّ الأوساط العربية المتعاطية بالفكر أو الثقافة منجذبة منذ بضع سنوات الى رَمْزين بَحْثيين جديدين يُرخيان بثقلهما على أروقتها ومنابرها ويُشْبعان مناخها بمقولتين محددتين، يصعب على الجاهل بهما السؤال عن فحواهما، دون الظهور بمظهر من فاته قطار العلم السريع. الرمزان هما الجندر gender والغوفرنانس governance. الاولى منهما تحث على دراسة الفرق بين النسوية feminism والجندر إيماءً بمفاضلة الثانية على الأولى. أما المقولة الثانية، فتدعو إلى اعتماد الgovernance كمرشد نظري، بصفة آلية بديلة في صنع القرار، بديلة عن الديموقراطية، كما يمكن الحدس بعد تدقيق قليل، وإن لم يكن لهذه المقولة ورمزها نفس حظ الأولى من الرواج، لأسباب سوف نبادر الى ايضاحها. أحاول في هذا المقال ايضاح هذا المناخ عبر وقائع من تعاطي بعض الجهات العلمية اللبنانية مع هذين الرمزين، فضلاً طبعاً عن محتواهما: فهناك استاذة جامعية، على قدر محترم من الذكاء، لم تتعرف على النسوية، لا قراءة ولا ممارسة. بعد نيلها المتأخر للدكتوراه، بدأت تكتب في القضايا "الجندرية"، بحكم انضوائها في إحدى الجمعيات المهتمة بالمرأة. وهي تحب "الجندر" مع أنها لا تعرفه، بدليل ما نشرته حتى الآن، وتجهل أيضاً النسوية، لكنها تكرهها، وهي تحيا في وسط يكرر بلا هوادة "أنا لست نسوية... ولكن": وسط يتعاطى معظم أفراده "الأبحاث الجندرية". الجمعيات النسائية اللبنانية، أو قل غالبيتها، المنضوية ضمن المجلس النسائي ليست نسوية، والأحرى ان التي كانت نسوية في بيتها، لم تعد كذلك. فالخيط الجامع لتحرك المجلس محمول بالحسابات الطائفية الدقيقة، بدليل إعراضه عن المشاركة في معركة القوانين المدنية للأحوال الشخصية منذ عامين، بسبب "توازناته الطائفية الدقيقة"، على حد قول رئيسته السابقة. إلا أنه في المقابل، تتوازن جمعيات المجلس مع وزارة الشؤون الاجتماعية، والمنظمات الدولية، من أجل القيام بحملات ودراسات جندرية، عُرضت بعض نتائجها في لقاءت محلية وعالمية. منذ ثلاث سنوات، اشتركت في مؤتمر، عقد في بيروت، عنوانه "الجندر والمواطنة في لبنان". كنت آنذاك على علم بسيط بالجندر، أعرف عنه لماماً وبالمشافهة. لذلك لم يضف هذا المفهوم كثيراً الى الورقة التي قدمتها. وعندما استمعت الى الأوراق الأخرى، تخلصت بتأنيب صامت للنفس راودني، بسبب عدم خوضي في موضوعي من الزاوية الجندرية: فالأوراق التي قدمت، كلها، بعناوينها ومضامينها، كان يمكن أن تكتب، وبالنوعية نفسها من التفاصيل، أيام النسوية الغابرة. أما عندما اشرت الى ذلك، في نهاية المؤتمر، بادئة بنفسي، ساد امتعاض في القاعة من الباحثين والباحثات لأنهم اعتقدوا أن هذا القول يسفّه مقام علمهم، وكذلك من منظمي المؤتمر، لأنهم بدوا بدوا وكأنهم خدعوا من قبل الباحثين المشتركين. النقاشات والقراءات اللاحقة على هذا المؤتمر أفضت بي الى التوقف أمام إجابة وحيدة هي بمثابة اللازمة: الجندر يأخذ المرأة ضمن الكل، أي ضمن الإطار أو النظام الذي يتصل بالمرأة، وبتضافر منظومة القيم والثقافة. وكان ملخص اعتراضي ساعتئذ على هذه اللازمة جملة سيمون دي بوفوار، النسوية: "إننا لم نخلق نساء، ولكننا أصبحنا نساء". فهبّت في وجهي مجموعة من المتكلمات حول "إنحرافات النسوية" و"ضيق افقها" و"مفاهيمها البائدة" و"الأخطاء الفادحة التي وقعت بها...". الوقائع والملاحظات التي أوردتها آنفاً هي بعض من تجربتي مع مفهوم الجندر، وهي تجربة أفضت بي الى الاعتقاد أن هذا المفهوم، وبصرف النظر عن وعي وإرادة المتصرفين به، مفهوم معقّم مطهّر من كل ما من شأنه إثارة النقاش الذي لم تفهمه النسوية حتى الآن. وهو يبدو لي مفهوماً مبتور الذاكرة ومجهول النشأة، وقد يكون جهلنا بأساس نشأته سببا ونتيجة في آن لفعل النسيان. فالنسوية، تارة، ظاهرة ترعرعت في إطار الحداثة الأوروبية، الحيوي والخلاق، واستمرت الى ما بعدها، تحمل في كل عقد أو اثنين من حياتها الممتدة على ما يضاهي القرنين، الصراعات الدائرة حولها، ومن ثم في داخلها، وتخوض في خلافاتها ونقاشاتها، فتدرج مآلها ضمن نظريتها أو تأخذ جزءاً منها أو تلفظه. وحركة التنوير ليبرالية، واشتراكية، تتشابك مع التحليل النفسي وحقوق الإنسان وحقوق الاقليات، أما الجندر فنشأ في إحدى كليات اميركا المغمورة ولا نعرف له أية صلة مع واحدة من ظواهر أو حركات التاريخ الحديث. وهذا ما يفضي الى سمة إضافية من سمات الجندر، وهي الافتقار الى التعدد، في حين كانت النسوية تنقل اتجاهات ومصالح المجتمع، فتتعدد تعبيراتها، من بروليتارية الى بورجوازية الى عالمثالثية الى جنسوية، sexiste و"ارثوذكسية" ومستقلة. والجندر يتقدم الجندر هكذا، مطهرا من كل ما من شأنه إثارة سجال حقيقي، وكأنه معادلة رياضية أو منطقية، تنطبق على واقع لا تلوينات على سطحه أو في باطنه، ولا تعقيدات ولا تبدلات عنيفة أحياناً. "كل النساء جندر" يكاد يصر المنتسب الى المعادلة الجندرية، وكأن نوعنا الجنسي هو البعد الوحيد لحيواتنا. وأخيراً، إذا حاولت أن تفهم سر التلاقي بين "الجندر" والسعي الى "بلوغ النساء مراكز القرار"، الشديد الذيوع، فقد تجده في روح هذا العصر المبعثر والمتعثر، وقوامه تدفق النساء على المجال العام، والمحاولة، التي لا يُعرف قدر الوعي بها، لضبطه وتقنينه، وذلك بتلازم فكرتين: تقديم "السلطة" على أنها المطلب الجوهري، وانها ذو طابع أقرب الى التقني منه إلى السياسي، وإلباس هذا المطلب الرداء الجندري المحايد سياسياً بدوره. فتكون بذلك قضايا النساء ومحاولات فهمها، منفصلة تماماً عما يحيط بها من معطيات هي في الواقع ارتباط بها. وأبهى تجسيد لهذه المحاولات خوض الباحثات، وغالبيتهن "جندريات"، في سائل نوع الانثى البشري فحسب، وصرف نظرهن عما يحيط هذا النوع من مسائل أخرى، تتشابك مع هذا النوع بخيوط ليست كلها خافية، مما يؤدي الى تثبيت الغيتوات جمع غيتو البحثية، التي لا تحتاج إلا لمن يغلقها على نفسها. * بالكاد استطعت تمالك نفسي عن الابتسام، سخرية، عندما قرأت "رد" أحدهم في العدد السابق من "تيارات" 12 /3/2000، وقد سبقه "رد" منه نُشر في بريد القراء "الحياة" 11/2/2000. وذلك لعدة أسباب أهمها إصرار الرجل على اعتبار نفسه هو المقصود بمقالتي "المدير - الاكاديمي الميليشياوي"، مع أنني لم آت على ذكره لا من قريب ولا من بعيد. فالمقصود كان الحديث عن حالة عامة من القهر والفساد، اختصرتها بتوليفة من عدة منابت ومصادر. أما وأن هذا الشخص مُصّر، وهو أدرى بنفسه، فلا اعرف ماذا اقول سوى انني ما كنت، لولا الحاحه، قد تذكرته. لكن المثل الشعبي اللبناني، الصادق في أغلب الأحيان، يقول: "كل مين تحت باطو إبطه مسلة ابرة بتنعرو تخزه". أما أن "تخزه" هذه "المسلة"، الى درجة دفعه لرواية ما رواه وتوجيه الشتائم لي بذريعة أنه المقصود بكلامي، فإنني أؤكد له أن القضاء اللبناني لا يزال بألف خير، وأنه سيكون الفصل بيننا!