هكذا، وفي مثل رجع الصدى تذوي في ضمير الإنسانية حقائق كبرى. هكذا، يفتُرُ المرجل الصاخب، وتنحسر الموجة العارمة ويغيض الفيض الطامي. هكذا، تسقط المفاهيم إلا من على مدلولها اللغوي! هكذا، أصبحنا نسمع بالمثل العليا والقيم الخالدة، والأخلاق الكريمة وكأنها غمغمات يلوكها كل من رمى عن قوس. وليس لنا والحالة هذه إلا أن نستشرف تلك الآفاق الغابرة التي كانت الأخلاق فيها منهاجاً حياً وبرنامجاً عملياً. تلك الآفاق التي خرجت فيها مدرسة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم أناساً اتخذوا القرآن نبراساً يضيء لهم مسالكهم، ويختط لهم منهاج حياتهم، أناساً اقتبسوا من خُلقه صلى الله عليه وسلم كل الفضائل، وصاروا أساتذة الدنيا في الفضل والخلق والسلوك. ولا عجب فقد كان خلقه، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم (القرآن). بهذه الفضائل ومكارم الأخلاق، والصدق والخلوص الحق فتحوا الدنيا، ورسموا للأمم طريق الحق ومنهاج الصلاح. فما أحوجنا إلى أن نتمثل هذه الأخلاق في واقعنا، وأن نتخذ منها أسلوب حياتنا. إن كثيراً من الناس في هذه الأيام قد أخذت المادة عليهم مسالكهم، وملكت عليهم أقطارهم، فلا يأبهون بخلق ولا فضيلة وجعلوا الأخلاق وراءهم ظهرياً، ولم يراعوا الله في قول ولا عمل ولا خصومة، فإذا خاصم أحدهم فجر وافترى على خصمه افتراء مبيناً، وألصق به من ذميم الصفات ما هو منها براء. والله سبحانه يقول: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون". هذا أمر الله بالعدل حتى مع من نشنؤهم، ونبغضهم ونناصبهم العداء، وقد أمرنا بالعدل والوفاء مع المشركين، فقال جل جلاله: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين". فكيف بمن حصل بيننا وبينهم خلاف بسيط أو سوء تفاهم أو اختلاف في وجهات النظر. نبهتهم، ونفتري عليهم ولا نراعي خلقاً ولا ديناً؟! فمن لأمة تريد أن تبعث أمجادها الداثرة، وتعيد سابق مجدها وماضي سعدها؟ من لأمة تريد أن تبعث أمجاد خالدٍ وطارقٍ وصلاح الدين؟! من لأمة تريد أن تبعث أسماء بنت أبي بكر والخنساء؟ من لأمة كانت سيدة الدنيا، تنشر العدل والصدق، والخلق القويم؟ من لأمة أخرجها محمد صلى الله عليه وسلم من الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء، والغي الموفي بأهله على النار، إلى وضح الهداية ونور اليقين؟ من لأمة نيّف عددها على المليار، لا عماد لها إلا الخلق الكريم. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا وإذا ما أصاب بنيان قوم وهيُ خلق فإنه وهي أسِّ