نائب رئيس البرلمان العربي يشيد بالجهود السعودية في دعم حل الدولتين    اللواء الحربي يتفقد المراكز الميدانية بمحميتي الأمير محمد بن سلمان الملكية وسرعان الطبيعية    ارتفاع الناتج الصناعي في كوريا الجنوبية    الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    إصابة 4 أشخاص في غارة إسرائيلية على لبنان    "هيئة الأدب" تنظم ملتقى الترجمة الدولي 2025 في الرياض    هيئة الأفلام تطلق آخر محطات مؤتمر النقد السينمائي الدولي بالرياض    فانس يحذر من «كارثة» في قطاع الطيران إذا لم ينته الإغلاق الحكومي    زواج بدر وراكان    وزير الصناعة: المملكة تقود صناعات المستقبل ب4 آلاف مصنع ذكي    اتفاقية تسرع الاستجابة للحوادث المرورية في الرياض    رابطة «أن بي آيه» توافق على الصفقة القياسية لبيع ليكرز    فالكنسفارد يونايتد بطل دوري الأبطال العالمي وجولة الرياض    حرم أمير الرياض ترعى انطلاقة جمعية «إدراك للأورام»    السعودية ضمن الدول الأدنى عالميا في معدلات الإصابة بالسرطان    حمية البحر المتوسط تحمي بطانة الرحم    التقنية تسيطر على مستقبل الأعمال    نيوم يتغلب على الخلود بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    تاسي والبتروكيماويات أسبوع سيولة وتقلبات محتملة    الأهلي يتعثر بالتعادل مع الرياض في دوري روشن    خطة سلام محتملة لأوكرانيا: تجميد المواجهة وخارطة طريق غامضة    «سلمان للإغاثة» يوزّع (3.610) سلال غذائية بإقليمين في باكستان    تطبيق الدوام الشتوي في مدارس الرياض ابتداءً من يوم الأحد المقبل    تركي بن محمد بن فهد يزور محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية    فيصل بن فرحان ووزير خارجية أوروغواي يبحثان المستجدات الإقليمية والدولية    نائب أمير مكة يستقبل نائب الرئيس الصيني ويبحثان تعزيز التعاون المشترك    90 طالبًا وطالبة من "الجمعيّة الأولى " يتدرّبون على الموسيقى في المركز السعودي بجدة    الديوان الملكي: وفاة الأمير خالد بن محمد بن تركي آل سعود    3 % ارتفاع الطلب العالمي على الذهب    أمير تبوك يستقبل عضو مجلس الشورى الدكتور عطية العطوي    جامعة أمِّ القُرى تنظِّم منتدى المجلس الاستشاري الدولي تحت شعار: "رؤى عالميَّة لمستقبل رائد"    موعد عودة كانسيلو للمشاركة مع الهلال    مفتي عام المملكة يستقبل أعضاء هيئة كبار العلماء    أمير منطقة جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لشركة المياه الوطنية    إطلاق اسم الأمير خالد الفيصل على مركز الأبحاث ومبنى كلية القانون بجامعة الفيصل    لندن تحتضن معرضا مصورا للأميرة البريطانية أليس خلال زيارتها للسعودية عام 1938    دراسة: نقص الأوكسجين يعطل جهاز المناعة ويزيد مخاطر العدوى    حسين بن عايض آل حمد في ذمة الله    وزير "الشؤون الإسلامية" يُدشِّن مشاريع بأكثر من 74 مليون بمنطقة الباحة    فيرتكس ووزارة الصحة السعودية توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز رعاية مرضى اضطرابات الدم    أكد الدور الاقتصادي للشركات العائلية.. وزير الاستثمار: 3 تريليونات دولار قيمة سوق المال السعودي    وسط تصعيد عسكري وتحذيرات من الرد على أي خرق.. إسرائيل تعلن استئناف وقف النار في غزة    رونالدو بعد أول خسارة: نتعلم مما حدث ونمضي للأمام!    تكريم الإعلاميين وطلاب الجامعة ومرشدي السياحة في جدة    الثقافة تقبل 10 باحثين ضمن منحة الحرف    أفراح الصعيدي وبالعمش    كسوف كلي يظلم العالم عام 2027    مختص: «السماك» يزين سماء السعودية ل13 يوماً    منافسات سباقات الحواجز تواصل تألقها في بطولة العالم للإطفاء والإنقاذ 2025    2000 قتيل ضمنهم مرضى بالمستشفيات.. مجازر في الفاشر ومطالبة بمحاسبة «الدعم السريع»    فشل محادثات السلام بين باكستان وأفغانستان    "الخدمات الطبية" بوزارة الداخلية تستعرض تجربة صحية متكاملة لخدمة ضيوف الرحمن في موسم الحج    مركز التميّز للعيون.. نموذج وطني متكامل    إنزال الناس منازلهم    دارفور تتحول إلى مركز نفوذ جديد وسط تصاعد الانقسامات في السودان    أمير جازان يستقبل مواطنا تنازل عن قاتل والده لوجه الله    هيئة الأمر بالمعروف بجازان تفعّل معرض "ولاء" التوعوي بمركز شرطة شمال جازان    أمير منطقة تبوك يستقبل مدير الأحوال المدنية بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أورق غرامه مثل غرس على سيل
نشر في الوطن يوم 16 - 03 - 2022

لي صديقٌ عجيب في سلوكه، وحواراته، وتفاعلها مع أفكاره، عرفتُه أيامَ الدراسةِ في مكتبة الجامعة، وقد كانَ في كُليةِ الشريعة، وأنا في اللغة العربية. كان كثَّ اللحية، إلا أنَّ وجهَه لا يُشبه وجوهَ الصحويين حين تتجهّم أمامَ وجوهٍ تتمثّل قولَ أبي تمام:
«أحلى الرجال منَ النساءِ مواقعًا/ منْ كانَ أشبههمْ بهنَّ خدودا».
كان مِضيافًا يُهرِّبُ القهوةَ العربية إلى داخلِ المكتبة، فيدعوني، ويُحدثني عن تاريخِ القهوةِ، وقصة سُليمان بن داود حينَ أمرَ الجنَّ بإحضارِ ثمرةِ البُن!
كان يروي حكايةَ الجنِّ مع صوت ارتشاف القهوة، وكأنَّه يَستَجِنّ بها. ويُعَلِّلُ هذا بأنَّ القهوة مُعِيْنَة على فهم كتاب (درء تعارض العقل والنقل)، وليس غريبا -آنذاك- على طالب شريعة، أن يحكي عن ابن تيمية، لكنَّ الغريب أن يحكي عن دريدا؛ حيث كنا في أعقابِ أحداثِ الحادي عشر من أيلول؛ إذ لم تُكمِل عامها الأول، فإذا بصديقي يحكي لي عن شخصٍ لأول مرة أسمعُ باسمه، يقول إنَّ لدريدا رسالة مهمة -هكذا قالها ويبدو أنه متأثر برسائلِ ابنِ تيمية العقدية- بعنوان (ما الذي حدث في 11 سبتمبر؟).
كنت -حينها- في السنة الأولى بالكلية، وهو في السنة الرابعة، فقلتُ:
ماذا يقول هذا الرجل دريد؟، فقال: دريدا، يبدو أنَّ عقلك مع دريد لحام، وكأنَّه تذكَّر ما قلتُ له عن محبتي لمسرح دريد لحام والماغوط، فأراد أن يستهزي بي، قائلًا: حدث بُرجَي التجارة أهم لحظة في تاريخ المسرح كله.
قلتُ: هل تراها مسرحية؟
ضحك بسخرية: هي تهميش للمسرح.
وظل غريبا إقحامُه دريدا بالموضوع!
لكن بما أنَّ الذئبَ لا يُهرول عَبثًا -كما يقول المثل- فلنبحث عن علاقةِ تفكيك دريدا للحدث، برؤية هذا الصديق العجيب في قوله هي تهميش للمسرح، إضافة إلى تفكيكِ دريدا لمفهوم: الحرب على الإرهاب، أو ربما أنَّ سُلطان القهوة أطربه لدرجةِ النشوة، فتمازجت الخطابات في وعيه.
وما يجعل إقحامه غريبا؛ أنَّ قولَ دريدا لم يكن -آنذاك- إلا حديثَ صحافة، لم يُنشر بَعدُ ككتاب؛ وهذا ما يجعلني أستبعدُ اطلاعه عليه.
وحين أسأله لماذا يقتحم المكتبة ويُهَرِّبُ القهوةِ وفناجينها، وتمرها؟! يُشهِرُ سيفَ (برودون) بترديد مقولته: «صَوِّت ضد الدستور لأنه دستور»، ثم يضحك: صَوِّت ضد قانون المكتبة لأنه قانون.
وحين أُذكِّره بفلسفته القانونية للإسلام في حياتنا، يقول: إلا هذا القانون.
فأقولُ مبتسمًا: أين برودون الآن؟
ليرد: ليأتي -حينها- ويشرب معنا القهوة.
ثم يضحك بصوتٍ عالٍ: ودون جزية، ثم يتمايل مُلحِّنًا:
«أعنّ له عَنّة هَلَ الكيف للهيل/ ما ذاق راعي الهيل ذقته هنيّا»، فقد كان يُظهر حُبَّه لأبي نورة أمامَ مجتمعِ الكلية، وقد قال لي - آنذاك: إنه يرى الموسيقى نزعةً دينية.
كانَ حادّا في رؤيته الغريبة لتمكين الإسلام، لا تُشبه الرؤى الأخرى؛ إلا أنه كانَ بَشوشًا مع الآخر، وكأنَّه يُخفي لُطفا أضاعته السنون الكئيبة في صَحوةٍ أليمة؛ إذ ما كان يعترض على شطحاتي المخالفة لمعتقداته، بل يقابلها بابتسامة حُبٍّ عجيبة، وكأنه يُفضّلني على أفكاره، أو لعلَّ الشكَّ قد انتابه، وخافَ أن يَخرجُ من فمه، فاسْتَمتَعَ بخروجِه من فمي، على طريقة المعري:
«قال المنجم والطبيب كلاهما/ لا تُحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلستُ بخاسر/ أو صح قولي فالخُسار إليكما».
شَكٌ مَعَرّيٌ في قوالب يقينية.
كنتُ أجتمع معه في المكتبة لمدة سنة فقط؛ لأنَّه تخرج، ثم أصبحتُ ألتقيه في مكتبة الملك عبدالعزيز، أو على نفودِ الثمامة، أو في أحد شعاب نجد وبراريها؛ وقد قرأنا ذات ليلةٍ شاتية (المنقذ من الضلال) للغزَّالي، فلم أعرف -حينها- أكنتُ مُستدفئًا بالنارِ الحقيقية أم بنار الغزَّالي المجازية؟
حيث الشك الغزّالي يصل بنا إلى ذروةِ اللا شيء، ولا يُنهيه إلا بقفزةٍ في المجهول كما يقول هو: «نور يقذفه الله في قلبك»، ولعلَّ من هذه الروح قفزَ كيركيغارد في غياهبِ المرحلة الإيمانية، قائلًا: «الإيمان قفزة في المجهول».
ولما سألتُه: لماذا اختار المنقذ من الضلال؟ قال: إنه أولُ شهوةٍ سردية للشكّ، وهو حكاية وبالحكاية نعيش.
ما زال هذا الصديقُ يُنمّي بيَّ العَجَب بأجوبته، مع أنَّه في أفكاره يقينيُّ!
تساءلتُ: إن كانَ يُظهر لي عكسَ اعتقاده؟ إلا أني استبعدتُ أن يكونَ ثمة إخفاءٌ مقصودٌ؛ إذ لا تغيب عن ذاكرتي طقوسُ قراءتِه لقوليْ الغزَّالي:
«فترخَّصتُ بيني وبين الله بالاستمرار على العزلة، تَعلُّلًا عن إظهارِ الحقِّ بالحجة».
وقول: «إن من لم يشك لم ينظر...» وقد استتبَعها بليلةٍ ثانية ليتلو رسالة حي بن يقظان، وكانت أول جملة في الرسالة هي:
«ذَكَر سَلفُنا الصالح...» فَعَلَّقَ مُتعجِّبًا ومُعجَبًا: لِكُلٍ سلفٌ صالح؛ تأمَّل قوله التالي: «وهي الجزيرة التي يتولّد بها الإنسانُ من غير أب ولا أم، وبها شجر يُثمر نساء».
ثم التفتَ إليَّ قائلا:
وكل سياق للولادة عن طريق أخت ال....، فهو كما قيل: «لم يشأ ابنُ طفيل أن يصدم المتدينين...، وإلا فهو يرى أنَّه تولَّد تولدًا طبيعيًا، من طينة تخمرت على مر السنين وامتزجت فيها العناصر الأربعة».
أما لماذا أحكي عنه الآن فلأنَّه اتصل بي بعد انقطاع إحدى عشرة سنة، ليقول دون مقدمات:
ماذا تقصد -في مقالك الماضي- بالدولة الفردية؟!
قلتُ مستنكرا: مَنْ يتحدث معي؟ قال: صديق كنتَ تُسميه عابر سبيل.
فقلتُ له بلهفةٍ على طريقة المغنية أحلام:
«وش ذكّرك حبٍّ طوته الليالي/حبٍّ مضى ما بين قلبي وبينك».
تواعدنا أن نلتقي في مقهى؛ لأقول له مَقصدي، فقال: أما اللقاء فلابُدَّ منه، وأما مقصدك فيحتاج إلى منادمةٍ لإيضاحه، فربما كان متهافتا، فأنقضُّ عليه ناقدا.
التقيتُه فإذا هو يلبس قبعةً؛ كأنه سارتر، وبوجهٍ نقيٍّ من شَعر اللحية كأنه أحد نجوم السينما الوسيمين، وأبقى الغزّالي وابن طفيل، في سلوكه ونقده لكن بعد أن حَوَّلهما إلى فيلسوفين لما بعد الحداثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.