الأمير خالد بن سلمان يرعى تخريج الدفعة «21 دفاع جوي»    ولي العهد يعزي هاتفياً رئيس دولة الإمارات    القيادة تعزي رئيس مجلس السيادة السوداني    أمير الرياض يرعى حفل تخريج الدفعة ال 68 من طلبة «جامعة الإمام»    الرؤية والتحول التاريخي ( 1 – 4)    أندية الهواة وتنوّع الهوايات    تحويل «التحلية» إلى «الهيئة السعودية للمياه»: أمن مائي.. موثوقية.. استدامة وابتكار    رحلة استجمام الى ينبع البحر    أسواق ومسالخ العاصمة المقدسة تحت المجهر    466.1 مليار ريال أرباح متوقعة لأرامكو    اللجنة الأولمبية الدولية تستعين بالذكاء الاصطناعي لحماية الرياضيين من الإساءات خلال الأولمبياد    وزير الخارجية ونظيره الأردني يبحثان هاتفياً التطورات الأخيرة في قطاع غزة ومدينة رفح الفلسطينية    إدانة دولية لعمليات الاحتلال العسكرية في رفح    الحرب العبثية في غزة    اقتصاد المؤثرين    انتهاك الإنسانية    بيلاروس تُعلن إجراء مناورة لاختبار جاهزية قاذفات أسلحة نووية تكتيكية    البنتاغون: الولايات المتحدة أنجزت بناء الميناء العائم قبالة غزة    تحقيقات مصرية موسعة في مقتل رجل أعمال إسرائيلي بالإسكندرية    هزيمة الأهلي لها أكثر من سبب..!    الاتحاد يطرح تذاكر مواجهة الاتفاق .. في الجولة 31 من دوري روشن    نائب أمير الشرقية: صعود القادسية سيضيف لرياضة المنطقة المزيد من الإثارة    الهلال يطلب التتويج في «المملكة أرينا»    الأول بارك يحتضن مواجهة الأخضر أمام الأردن    بونو: لن نكتفي بنقطة.. سنفوز بالمباريات المتبقية    اختتام دور المجموعات للدوري السعودي الممتاز لكرة قدم الصالات في "الخبر"    "الجوازات" تعلن جاهزيتها لموسم الحج    30 مزاداً عقارياً في المناطق    مؤتمر الحماية المدنية يناقش إدارة الحشود    «البدر» و«محمد عبده».. رحلة الكيمياء والكيماوي    غاب مهندس الكلمة.. غاب البدر    عبدالغني قستي وأدبه    حاتم الطائي    أمير جازان يخصص الجلسة الأسبوعية لاستعراض مؤشرات ومنجزات التعليم    بدر الحروف    البدر والأثر.. ومحبة الناس !    تغريدتك حصانك !    المدح المذموم    الإطاحة بثلاثة مروجين للمخدرات    تنظيم لهيئة الصحة العامة وتحويل مؤسسة تحلية المياه إلى هيئة    «سعود الطبية»: زيادة إصابات «الكفة المدورة» مع تقدم العمر    الفوائد الخمس لقول لا    مروة محمد: نحن مقبلون على مجد سينمائي    "ذهبية" لطالب سعودي لاختراع تبريد بطاريات الليثيوم    10 آلاف ريال عقوبة الحج دون تصريح    بدء التسجيل ب"زمالة الأطباء" في 4 دول أوروبية    29 ألف م3 مخلفات بناء برفحاء    مالكوم ينثر سحره مع الهلال    أمير الرياض يقلد مدير جوازات المنطقة رتبته الجديدة    إطلاق خدمة "أجير الحج" للعمل الموسمي    العُلا تنعش سوق السفر العربي بشراكات وإعلانات    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقآء الأسبوعي    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المصلى المتنقل خلال مهرجان الحريد    ولي العهد يعزي رئيس الامارات بوفاة الشيخ طحنون    وزير الدفاع يرعى تخريج طلبة الدفاع الجوي    هل تتلاشى فعالية لقاح الحصبة ؟    اكتشاف الرابط بين النظام الغذائي والسرطان    إنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد.. وصول التوأم السيامي الفلبيني «أكيزا وعائشة» إلى الرياض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريق إلى القراءة .. من تجربة ذاتية في التحرر
نشر في الرياض يوم 13 - 03 - 2014

عطفاً على ما بدأتُ به الأسبوع الماضي أقول: الآن أصبح ديوان طرفة بن العبد بين يدي. اتجهت عيناي أول شيء إلى المعلقة الرائعة رغم أن الديوان يبدأ بغيرها، وفق حروف المعجم. قرأت المقدمة الطللية/ الغزلية، مسترشدا بشرح المُعلّق، وبعد أن تجاوزت الأبيات العشرة الأولى، ودلفت إلى وصف الناقة، ضقت بما أقرأ، أحسست كأنما دخلت إلى عالم مختلف، عالم غير شعري. مررت ببصري سريعاً على هذا الوصف الوحشي في لغته، إلى أن وصلت إلى الأبيات التي تحكي معاناته مع الحياة ومع الأحياء، بحيث بدأت أفهم معظمها بلا استرشاد بالتعليق. وهنا التقيت وجها لوجه بطرفة المتمرد، قابلته ناطقا بنفسه عن نفسه. وبما أنه في هذا الجزء الثاني من المعلقة يشير إلى وقائع وأحداث محددة، فقد رجعت فورا إلى الترجمة التي وضعها المعلق أول الديوان. وهنا، وأنا في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة تقريبا همت بهذا الشاعر الجاهلي الذي لم يستطع أن يخرجني من عالمه إلا المتنبي.
أجمل ما في القراءة أن كل كتاب تقرأه يأخذك إلى كتاب آخر، أو إلى كتب أخرى، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
تعلقي بطرفة جرّني إلى البحث عن المعلقات التي ينتمي طرفة إلى عالمها. وهنا وقعت على عالم ساحر ومسحور، عالم لم يدر بخلدي أنه وجد من قبل. الإيقاع الممزوج بالحزن الدافئ الذي جلل معلقة امرئ القيس جعلني أسترسل مع القصيدة إلى آخرها من أول قراءة، وبلا توقف. طبعا، كنت أتجاوز ما لا أفهمه إلى ما أفهمه، رغم إحساسي بالمعنى العام؛ لأن معلقة امرئ القيس لم تكن كمعلقة طرفة طافحة بالغريب في مقطع كبير منها. ولا شك أن اللوحات الغزلية، بل الإباحية التي رسمها امرؤ القيس بكلماته الصاخبة بالشبق، كانت مما ألهب خيال طفل بدأ للتو يلج عالم المراهقة، وينفتح على عالم المرأة، المرأة التي كانت في بيئتي لا تعدو أن تكون سراً من الأسرار، بل كانت ملغاة في الواقع إلى درجة الصفر، بحيث لا وجود لامرأة تكون موضوع حب أو حتى ما دون الحب. وهذا ما زاد من الهيام بالمرأة أو بالشعر، لا فرق.
وكما الحال في مسلسل طرفة التلفزيوني، كان لمسلسل امرئ القيس الذي عُرض بعد سنة تقريبا دور كبير في تعزيز التعلق بالشعر والشعراء. ومهما خانتني الذاكرة؛ فلن أنسى ما حييت بطل المسلسل وهو يقرأ قول امرئ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبكِ عينك إنما
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
تأثرت جدا بهذا الإيقاع الشعري المجلل بعذاب اليأس وعذاب الإرادة في آن واحد. ولهذا رجعت إلى القصيدة فورا، ولم أغلق الديوان إلا وقد حفظت هذه القصيدة كاملة، رغم أن بعض أبياتها لم ترق لي آنذاك.
بعد ذلك بدأت تصفّح دواوين الشعراء الجاهليين، والمختارات التي تتناول هذا الشعر، كالاختيارين والمفضليات والأصمعيات. وتولد لدي إحساس تذوقي، في هذا العمر المفعم بالسذاجة المعرفية، أن الشعر إما أن يكون جاهلياً أو لا يكون.
أحسست وكنت مُعتدّا بهذا الإحساس أن الشعر الحقيقي هو ما قاله الإنسان الجاهلي فقط، وأن الشعر ترهل حد الفساد بعد ظهور الإسلام. ربما كان سبب هذا الإحساس أن الشعر المختار لنا مدرسياً من الشعر الإسلامي والحديث كان رديئا، مقارنة بهذا الشعر الجاهلي الساحر. يختارون لك مثلا قصيدة أحمد شوقي في الصحف :
لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف
أو قصيدته في النخل:
أرى شجراً في السماء احتجب
وشقّ العنان بمرأى عجب
ويريدون منك أن تتعلق بالشعر.
فرق كبير أن تقرأ هذه القصيدة الشوقية؛ كشاب مراهق، وأن تقرأ قول امرئ القيس متغزلا :
سموت إليها بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
أو قوله:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
لم يكسر هذه القناعة الذوقية التي ترسخت في عقل ووجدان شاب في الخامسة عشرة؛ إلا ورقة مقطوعة من كتاب، ورقة ملقاة في الرواق المحاذي للفصول الدراسية. كنت في الثالثة المتوسطة، وكانت الورقة بحجم الكف لا تزيد. ولكن ما شدني إليها أنني لمحت فيها نسق الأبيات العمودية، أي أنني رأيت شعرا ملقى على الأرض، تفاعلت عيني مع هذا المشهد بعد كل هذه العلاقة العشقية مع الشعر، فكان يجب عليّ أن أتفحّصه. التقطت الورقة، وفيها قرأت قول المتنبي:
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
كانت أبياتا هجائية، ولكنها شدتني بقوة، أحسست قائل هذه الأبيات ينتمي إلى عالم طرفة الغاضب المتمرد الذي قاده غضبه وتمرده إلى حتفه، كما سيقود المتنبي أيضا إلى حتفه. ومع أني لم أكن أعرف وأنا أقرأ هذه الأبيات مصير المتنبي، ولا طبيعة شعره التي تمتاح من جنون التمرد، إلا أنني أحسست بأن قائل هذه الأبيات ينتمي إلى عالمي/ خيالي، الذي هو عالم طرفة. وهذا ما جعلني أستعير ديوانه فورا، وأقرأ سيرته من مقدمة المحقق. ومن هنا بدأ التعلق الجنوني بالمتنبي، هذا التعلق الذي أعاد لي الشعراء الجاهليين متموضعين في حجمهم الطبيعي، أو الذي تصورت آنذاك أنه حجمهم الطبيعي.
لقائي بالمتنبي، أقصد بديوان المتنبي كان بمثابة الانفجار النووي في سياق علاقتي بالشعر خاصة، وبالقراءة عامة. المتنبي ليس مجرد شاعر عبقري، ولا مثقف كبير بحدود ثقافة عصره فحسب، وإنما هو إنسان يضع للثقافة قيمتها فوق كل شيء. المتنبي يُشعرك بقوة أن الشعر/ الثقافة هو/ هي الأول. المتنبي يقنعك بشعره وسلوكه أن القيمة الحقيقية التي تتضاءل جميع الأشياء بالمقارنة إليها تكمن في العقل، في عقل الإنسان، لا في ماديات الحياة، ولا في علائقها المليئة بكل صور الإغراء من هيمنة وسلطان.
المتنبي وعلى امتداد ديوانه الذي يتمفصل على سيرته يقف معتدا بقيمته كشاعر وكمثقف بإزاء كل الملوك والأمراء والكبراء، بالقدر الذي يتضاءل في مدى نظره المحلق كل جاهل بالشقاوة ينعم!.
في تلك اللحظات التي اكتشفتُ فيها المتنبي؛ اكتشفت أن ثمة معنى/ هدفاً لحياتي. أستطيع أن أقول: إنها هي اللحظات التي قررت فيها قرارا مصيريا أن يكون مستقبلي هو الكتاب، أن أكون مع الكتاب صعودا أو هبوطا، إذ لا معنى للحياة كلها إلا بين دفتي كتاب. قبل المتنبي كنت أتعقّب الشعراء بعشق، كان ثمة وَلَهٌ ومتعة لا تُضاهى، ولكن لم يكن ثمة قرار نابع من أعمق الأعماق أن تكون القراءة مصيري، أن تكون قدري؛ عليها أحيا وعليها أموت. مِن قبل اكتشافي المتنبي كان يمكن أن يُزاحم أي اهتمام آخر اهتمامي بالقراءة، كان يمكن أن أتنازل عن القراءة أمام أي إغراء آخر، لكن، بعد اكتشاف المتنبي، كتبت قراري، ومن ثم رُفعت الأقلام وجفت الصحف!.
بما يشبه الهوس، بل هو الهوس بعينه، تتبعت كل ما كتب عن المتنبي في القديم والحديث. وكلما أوغلت في هذا التتبع الذي كان يبدو وكأنه يشبه عمليات الاستقصاء لغايات استخباراتية؛ زادت حدة هوسي، وأخذ القرار السابق مبرراته على مستوى العقل وعلى مستوى الوجدان. تتبعت المتنبي، لا في كتب الأدب فحسب، بل في كل كتب التراجم، أترصد الإضافات والاختلافات والتناقضات، وتدهشني في كل قراءة هذه الشخصية الاستثنائية التي تتحدى بإبائها الصارخ كل قيود الزمان، هذه الشخصية التي تنتفض على كل الشروط، والتي تتحدى الحياة ذاتها، بل وتتحدى الموت بالموت؛ عندما لا يبدى الموت استعدادا لقبول شرط الحياة.
أجمل ما في القراءة أن كل كتاب تقرأه يأخذك إلى كتاب آخر، أو إلى كتب أخرى، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
أذكر في تلك السنة أنني قرأت في معجم البلدان لياقوت الحموي، مع أنه كتاب جغرافي في الأساس، لمجرد تتبع الأماكن التي مر بها المتنبي في هروبه من مصر. وهنا عرفت كيف يفتح ياقوت لي عوالم أخرى من المعرفة، فضلا عن الشواهد الشعرية التي استعرضتها من أول الكتاب إلى آخره. كنت أقرأ الشواهد فقط، وأنسخ ما أراه جميلا بحدود ذائقتي في ذلك الوقت. وكذلك كان الأمر مع وفيات الأعيان ومع سير أعلام النبلاء.. إلخ من كتب التراجم.
انهماكي الشديد في تتبع كل ما كتب عن المتنبي من تراجم ودراسات جعلني أقرأ في وقت مبكر (في حدود الخامسة عشرة) لطه حسين ومحمود شاكر، لا لمعرفتي بهما ابتداء (مع أنني في تلك السنة سمعت عن طه حسين مصادفة ثناء من شأنه أن يغريني بالقراءة له)، وإنما لأنني وجدت لهما دراسات أدبية عن المتنبي. عندما وقعت على كتاب محمود شاكر الضخم عن المتنبي قرأته من عصر الأربعاء إلى ظهر الجمعة، بقراءة متواصلة لا تعرف النوم إلا غرارا. وقد تجاوزت عن المقدمة التي كانت بعنوان (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) لأنها أضجرتني بعد عدة صفحات، ودخلت في موضوع المتنبي مباشرة. ومع أن محمود شاكر لم يستهوني كما استهواني طه حسين، إلا أنه في موضوع المتنبي خاصة كان أقرب إلي من طه حسين؛ لأن موقفه من المتنبي كان أكثر إيجابية. فمحمود شاكر يدرج المتنبي في سلك النسب العلوي الشريف، بينما طه حسين يقذف به في خانة اللقطاء أو المجاهيل.
ومع أن المتنبي كان في تلك المرحلة هو بؤرة الاهتمام؛ إلا أنه كان نقطة الانطلاق إلى ميادين أخرى.
عرفت كثيرا من المؤلفين والأدباء بسبب هذا الاهتمام الهوسي. بل سمعت بالفلاسفة والحكماء، أرسطو وأفلاطون وحكماء فارس والهند.. إلخ، من خلال الكتب التي كانت تُعنى بتتبع المعاني عند المتنبي الذي حاولوا سلبه عبقريته، فكانوا يتهمونه بسرقة الحكم والأمثال من هؤلاء الفلاسفة. وكان كتاب (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي) يغيظني جدا؛ لأنه فتح الباب واسعا للقصص التي تطعن في شخصية المتنبي، وللآراء التي تحيل إبداع المتنبي إلى مجرد سرقات شعرية. أغراني هذا الكتاب بقدر ما أغاظني، فهو يتتبع مسيرة المتنبي بشكل مكثف، ويأتي بأشياء لم يأتِ بها غيره، ولكن رفعه القداسة عن المتنبي، وموضعته له في سياقه البشري، جعلني أهم أحيانا بتمزيق الكتاب، مع أنه عارية مستردة لا أمتلك حق التصرف فيها. ولعل من الواضح الآن أنني كنت كشاب مراهق أتعامل مع المتنبي بذات الروح التي يتعامل بها المؤدلجون اليوم مع شيوخهم، إذ يرون أدنى نقد يوجهه أي أحد إلى شيوخهم عدوانا صارخا على ذات المقدس الديني الذي يتمسح به الشيخ الوقور. أفهم ولا أتفهم مشاعرهم؛ لأنني عشتها مع شيخي المُبجّل (= المتنبي) لأكثر من خمس سنوات.
والغريب أن بقايا تلك الحالة التبجيلية لا تزال عالقة فيّ، في وجداني على الأقل (إذ تحرر عقلي منها)، فنقد المتنبي عندما أمارسه اليوم لا يمر بسهولة على وجداني العاشق، إنه يمر بعد أخذ ورد على قنطرة من الألم العميق الذي يتخلل الروح بما يشبه انتهاك أقدس المحرمات !.
عرفت المعرّي من خلال المتنبي. قرأت في التراجم عن تعصب المعري اللامحدود للمتنبي، والذي وصل به إلى حد تعريض نفسه للإهانة في بغداد لمجرد الدفاع عن شاعرية المتنبي. قرأت أن المعري عندما أملى كتابه في شرح ديوان المتنبي بكى وقال: كأنما كان المتنبي يعنيني عندما قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
قال المعري: أنا الأعمى. بكيت لبكاء المعري. ومع أنني وجدت في المعري روحا تختلف في الظاهر عن روح المتنبي إلا أنني أحببته من أول لقاء، وكان لقاء عابرا على صفحات التراجم. أحببت المعري، لكن عشقي له لن يترسخ إلا بعد قراءاتي المتكررة لكتاب عبدالله الطيب (المرشد إلى فهم أشعار العرب).
هذا الكتاب كان موجودا بمجلديه في المكتبة العامة بطبعة قديمة، ولكنها جميلة. بينما كنت أتتبع الكتب التي تشرح الشعر، أو التي تتناول سير الشعراء، وقعت على هذا الكتاب الذي هو مرشد بالفعل. قرأت هذا الكتاب مرارا لأفهم بعض ما استعصى علي فهمه، خاصة وأنني قرأته وأنا في الصف الأولى الثانوي، ولم أكن حينئذٍ أعرف بحور الشعر على نحو علمي، بحيث أستطيع التعامل بسهولة مع الدروس العروضية التي حُشي بها هذا الكتاب. لكن لا ريب أن هذا الكتاب قرّب إلي العروض، إذ بدأت أحس بتجربة الإيقاع استنادا إلى الطبع بالفرق بين بحر شعري وآخر. وبعد قراءة هذا الكتاب بدأت أستطيع التمييز بين ثمانية بحور شعرية بمجرد سماعها، دون أن أعرف كيفية تقطيعها عروضيا على نحو مفصل.
كان كتاب عبدالله الطيب جميلا، وأجمل ما في هذا الكتاب أنه يدخلك إلى عالم صناعة الشعر، يدلج بك إلى عالم الأسرار في هذا الفن الغامض الذي ربطه السابقون بعالم الجن والشياطين. وزيادة على ذلك، فهو يعرّفك بكثير من الشعراء المجيدين، وبأفضل قصائدهم، وخاصة تلك القصائد الفخمة ذات الإيقاع الساحر. وكان مما اختاره الطيب من شعر للمعري هو البداية الحقيقية لتعلقي بالمعري.
ومهما نسيت فلن أنسى نشوتي الفائقة (التي غدت كل لذائذ الدنيا لا شيء بإزائها) وأنا أقرأ في كتاب الطيب أبياتا من تائية المعري التي قالها بعد عودته من بغداد متشوقا إليها، والتي مطلعها:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا
وموقد النار لا تكرى بتكريتا
في تلك اللحظات التي دار فيها رأسي بخمرة هذا الإيقاع الموسيقي الغريب الآتي في معظمه من غرابة القافية، تحدد لي معنى الوجود كله في أن أطلع على هذه القصيدة كاملة. لكن، كيف، وأنا أعرف من خلال فحصي الدقيق لكل الكتب الأدبية في المكتبة العامة والمكتبة الخيرية في البكيرية أن ديوان المعري (= سقط الزند) ليس موجودا (كان هذا في حدود أوائل عام 1408 ه)، ولا حيلة لي فيما وراء هاتين المكتبتين. ذهبت إلى بريدة، وزرت ثلاث مكتبات تجارية، ولم أجد للديوان أثرا؛ ولهذا مكثت أسابيع أتصفح كتب الأدب المتاحة في المكتبتين: العامة والخيرية، لعل وعسى أن أجدها كاملة في أي كتاب، ولكن لا فائدة، القصيدة كاملة في ديوان المعري، ومعها بقية القصائد التي عرضها عبدالله الطيب كنماذج على غرابة القوافي، ومنها القصيدة العينية ذات المطلع الغريب، وهي التي يودع بها المعري أهل بغداد بعد ما كان ينوي الإقامة الدائمة:
نَبيٌّ من الغِربان ليس على شَرعِ
يُخبّرنا أن الشعوب إلى الصَّدعِ
في هذه الأثناء، وبينما كنتُ أبحث عن ديوان المعري، أخبرني أحد الأصدقاء، ونحن في المدرسة، أنه ذاهب إلى الرياض لمناسبة زواج، وأنه سيعود بعد ثلاثة أيام. لم أسأله مستئذناً، بل قلت له: ستحضر لي مجموعة كتب، وسأراك عصرا لأعطيك أسماءها. قال: نحن سنسافر قبل العصر، قلت بعد المدرسة سأذهب للبيت وأحضر لك ثمنها وأسماء الكتب. كانت أسماء الكتب في رأسي، ولكن أردت إحضار المبلغ المالي حتى لا أترك له فرصة لتجاهل طلبي. أعطيته قائمة بأسماء الكتب، معظمها دواوين شعرية، وعلى رأسها (سقط الزند) و(اللزوميات) للمعري، ومعها 500 ريال.
انتظرت عودته على أحر مما ينتظر العاشق معشوقته بعد طول فراق، لا شوقا إليه، وإنما إلى الكنز السحري الذي من المفترض أن يحمله إليّ. كان ثمة قلق حقيقي، هل سيبحث بجد عن الكتاب ؟ وحتى إن بحث عنه بجد، فهو سيبحث عنه بلا خبرة، فهو مثلي في السادسة عشرة، ولا علم له بعالم المكتبات التجارية في الرياض. وهنا ساورني القلق: هل سيجده فعلا ؟ وبين اليأس والرجاء قطعت مسيرة ثلاثة أيام.
استعان صديقي بخاله الذي أوصله إلى مكتبة وجد فيها معظم الكتب التي كتبتها له، وكانت في حدود خمسة عشر كتابا لا تزيد. أول ما رأيته سألته: هل وجدت (سقط الزند)، قال: نعم، واللزوميات. هنا أحسست بأن الدينا قد حيزت لي بحذافيرها. عدت بالكتب، ووضعتها أمامي، أمسكت بديوان المعري، محتارا بين خيارين: أن أبدأ لذة الاكتشاف، أو أن أتمهل قليلا؛ لأتمتع بهمسات دقائق الانتظار التي ستزفّني إلى اللذة المرتقبة. هل أبدأ طقوس اللذة أو أنتظر قليلا؛ لأجعل من اللحظة الواحدة بضع لحظات في خيالي؟ وكيف أبدأ.
مجرد وجود الديوان بين لدي يمنحني لذة متوترة لا أريد عبورها؛ رغم يقيني أن ما بعدها أجمل منها. وأخيراً قررت الاقتحام، وافتتحت الديوان متوقعاً أن قصائده مرتبة كأغلب الدواوين حسب الحروف. ولكن، كان أول ما واجهني داليته الشهيرة في الرثاء. انتفضت انتفاضة رعب خافتة، وهتفت في نفسي: أين حرف التاء؟ أتوجه بسرعة وبلهفة إلى الفهرس، وهنا تقع عيني على مطلع القصيدة، فألتقط رقم الصفحة، أفتح عليها؛ لأجد القصيدة أمامي، أمر ببصري عليها سريعا لأحدس عدد أبياتها، ومجرد أن أحدس أنها في حدود الخمسين بيتا أغلق الديوان بسرعة لأتأمل في لحظتي، لأستشعر أن القصيدة بلحمها ودمها وأنفاسها اللاهثة بين يدي، وأنني بحركة واحدة من يدي تصبح القصيدة بكل جمالها الباذخ عارية أمام ناظري. بعد دقائق، أعيد فتح الديوان على القصيدة العارية، أبدأ معها في ترتيل آيات الحب الحزين، تمتزج أشجاني بأشجان المعري، ولا يسفر الصبح إلا ومعظم قصائد الديوان قد سيقت إلى قربان اللذة المقدسة.
(يتبع)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.