لم يعد مستغرباً الحديث المكرر عن مؤتمر جنيف 2 في الآونة الأخيرة وتقديمه كوصفة سحرية لحل الأزمة السورية، أو على الأقل كبوابة للدخول إلى هذا الحل، مع أنه قد لا يعقد في المدى المنظور وحتى في حال الاتفاق على عقده فإنه لن يكون في أحس الأحوال أكثر من شرعنة لواقع جديد ملخصه أن سوريا انتقلت من الثورة إلى الأزمة. التضخيم الإعلامي المرافق لجهود عقد هذا المؤتمر جاء بعد موجة هيجان سياسية وإعلامية قادتها الولاياتالمتحدة وفرنسا بتوجيه ضربة عسكرية إلى نظام الأسد إثر استخدامه السلاح الكيماوي، ومقتل نحو 1500 مدني، وكان لابد من سد انحسار هذه الموجة بعد أن أعلن نظام الأسد موافقته على تسليم ترسانته الكيماوية، وعوضاً عن معاقبته على الجريمة صار لابد من مكافأته على دفع الدية، وهو ما استثمرته الولاياتالمتحدة على أحسن وجه، لتدخل في صلب الأزمة السورية من بوابة إدارتها وليس حلها. وإدارة الأزمة تعني أن المجتمع الدولي والولاياتالمتحدة أكدا بشكل قاطع عدم التدخل العسكري، وأن على أطراف الصراع في سوريا أن تصل إلى نتيجة محتومة، بأن ليس هناك حسم عسكري بين طرفي النزاع، وأن الحل النهائي هو حل تفاوضي لأن النظام لم يستنفد بعد أوراقه ودوره في اللعبة السياسية الدولية والإقليمية، وما زال الطرف الأقوى عسكرياً على الأرض إضافة إلى تمسك حلفائه به عالمياً وإقليمياً روسياالصينوإيران والعراق. وإدارة الأزمة تعني أيضاً أن الولاياتالمتحدة وصلت إلى قناعة أن المعارضة السورية لم تزل بعيدة عن تشكيل بديل حقيقي للنظام، فهي مشرذمة سياسياً وعسكرياً، وأصبحت حاضنة للتيارات الإسلامية المتشددة وبالتالي فأي محاولة لإسقاط النظام سيجعل الطريق أمام تلك التيارات للوصول إلى السلطة ممهداً، ويبدو أن محاولاتها في إحداث صدع أو فرز في صفوف المعارضة المسلحة بين التيارات المتطرفة والمعتدلة لن تأتي أُكُلَها، لذلك آثرت الإبقاء على نظام الأسد كأداة في وجه تقدم تلك التيارات في المرحلة الحالية، ريثما يفرز الصراع معطيات أخرى، محققة بذلك عدة أهداف في آن واحد أهمها استنزاف إيران وحزب الله في سوريا، إضافة لاستكمال هدم البنى التحتية لسوريا اجتماعياً ومادياً، خاصة أن النظام يقوم بما يشبه عمليات تهجير ممنهجة للسوريين، وطالت اللاجئين الفلسطينيين وأهالي الجولان والقنيطرة بإبعادهم عن حدود إسرائيل الشمالية، وبما يخدم مصالحها المستقبلية، عدا أن ما يحدث في سوريا والعراق ينسجم مع التصور الأمريكي للجغرافيا السياسية للمنطقة التي تقوم على سياسة التخوم والوحدات الإقليمية والطائفية والإثنية في سياق القضاء على الإرث الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط، والمتمثل في الوحدات السياسية الوطنية التي أنتجتها اتفاقية سايكس بيكو قبل نحو قرن من الزمان، وهو ما يضمن لإسرائيل الاستمرار كدولة يهودية في قلب المنطقة العربية، لكن بمحيط جديد مفكك من الدويلات. إذاً نظام الأسد أدرك منذ اللحظة الأولى للثورة أن مفتاحه للقضاء عليها هو أسلمتها وتطييفها، وهو ما أدى حتماً إلى تسلحها، وبالتالي تعزيز الانقسام بينه وبين الأطراف الإسلامية المتطرفة فيها، لذلك استهدف منذ البداية القوى المدنية والسلمية، وفيما بعد القوى الإسلامية المعتدلة، ولعب بمهارة على وتر تشرذم القوى السياسية المعارضة، فأفاد من عجز القوى الاجتماعية الثائرة ضده عن بلورة بديل له، مفسحاً المجال لقوى المعارضة الخارجية أن تتخبط في تناقضاتها لدرجة العجز عن مسايرة متطلبات المجتمع الدولي، والأهم العجز عن متطلبات مجتمعها في مواجهة النظام، فوقعت في الفخ الذي رسمه لها، وكانت خير حليف له في إجهاض قيم الثورة ومصالح الشعب السوري. وفي الطرف الآخر اعتمد النظام على تحالفاته الاستراتيجية واستطاع من خلالها مراعاة مصالح صديقته اللدود إسرائيل وحليفه الاستراتيجي إيران والوصية عليه روسيا وكسب رضا الرأي العام الغربي والأمريكي واستدرج المعارضة السياسية للدفاع عن المتطرفين كجزء من الثورة، وتوج ذلك بتنازله عن ترسانته الكيماوية مستكملاً مهمة إضعاف الدولة السورية. في هذا السياق يأتي جنيف 2 كخطوة لإعادة الشرعية إلى نظام فقد كل شرعيته، يأتي كإحراج لمعارضة سياسية لم تعد مقبولة داخلياً وخارجياً، ويأتي أيضاً كإحراج للقوى العسكرية الفاعلة على الأرض التي أصبحت تعرف أن التراجع أمام النظام يعني القضاء على الثورة قضاء مبرماً، ويأتي كثمرة لتقارب أمريكي إيراني أولاً وثمرة اتفاق روسي أمريكي حجر الزاوية فيه أمن إسرائيل عن طريق إدارة صراع طويل الأمد في سوريا، يبقى فيه نظام الأسد والثورة السورية أمواتا ينتظرون من يكرمهم ويتبرع بدفنهم. لذلك، جنيف محطة مؤجلة على الأرجح إلى ما بعد انتخاب الأسد إلى ولاية رئاسية ثالثة، وحتى إن حدث أن عقد قبل ذلك، فإن الأسد لن يجد من يفاوضه إلا معارضة صنعها خصيصاً لأجل ذلك، وفي معظمها معارضة الداخل وبعض الرموز التي تدور في فلكه في الخارج. * كاتب ومعارض سوري مقيم في باريس