طغت أحداث «فتنة جدة»، التي حدثت عام 1858م، وشهدت نهاية دموية قُتل فيها قنصلان أوروبيان، على مناقشات المحاضرة التي قدمها المؤرخ الفرنسي فيليب بتريات مساء أمس الأول في فرع جمعية الثقافة والفنون في جدة. وتناول بتريات في محاضرته، التي أدارها مدير فرع الجمعية عبدالله التعزي، تاريخ وجود الجاليات الأوروبية في مدينة جدة في القرن ال 19. واستهلها بالإشارة إلى ملاحظات، أهمها أن الأوروبيين لم يكونوا يمثلون أغلبية للأجانب في الجزيرة العربية آنذاك، وأن دراسته عن وجود الجاليات الأوروبية في جدة آنذك تشير إلى «حقيقة مهمة»، هي اندماج جدة في السوق العالمية في فترة العولمة الأولي. وتحدث بتريات عن استقرار الأوروبيين في جدة في القرن ال 18، موضحاً أن ثلاثين رحالة أوروبياً مروا بجدة آنذاك، منهم من له اهتمامات علمية، وأن أحدهم اكتشف آثاراً في منطقة تيماء، وأن آخر اشترى مسلة تيماء، مبيناً أن أولئك الرحالة كانوا يمكثون فترة موسمية فقط، موضحاً أن أحد الرحالة أوضح في كتاب له عام 1176ه أن جدة كانت خالية آنذاك من الأوروبيين. وبين المحاضر أن استقرار الأوروبيين في جدة تزامن مع إنشاء القنصليات الأولى. وأن عام 1836م شهد وصول أول قنصل إنجليزي. وقال إن «بيت ساوا» هو أول بيت تجاري أوروبي في جدة. وتطرق بتريات إلى التعامل اليومي بين تجار جدة والتجار الأوروبيين، مشيراً إلى أن عام 1273ه شهد إيقاف تجار جدة كل تعاملاتهم مع «بيت ساوا»، فحدثت أزمة أدت إلى تدخل القنصلية، التي شكلت الشرارة الأولى لأحداث فتنة جدة، موضحاً أن هذا الأمر يكشف عن منافسة غير مشروعة بين تجار جدة والأوروبيين، ما أنتج شعوراً بالعداء لأسباب تجارية، وليست دينية. وأوضح أن 31 يونانياً كانوا في جدة عام 1870م، بينهم شخص يعمل خبازاً، فيما كان البقية تجاراً. كما بين أن عدد سكان جدة في 1890م كان عشرين ألفاً، بينهم خمسون أوروبياً، بعضهم اندمج وصار لا يتحدث إلا اللغة العربية، وإذا مات أحدهم دفن في مقبرة غير المسلمين، موضحاً أنه لم يعثر على أي دليل يؤكد وجود كنيسة في جدة، إلا أن بعض القسيسين كانوا يزورون المدينة من وقت لآخر، وأن هناك بعض القوانين التي كانت تفرض على الأوروبيين في جدة، منها عدم السماح لهم بتجاوز باب مكة، لأنه مكان المغادرة لمكة. وأشار بتريات إلى تمرد بعض القبائل عام 1830م، ولجوء بعض الأوروبيين إلى بعض القنصليات طلباً للحماية. وقال إن الأوروبيين كانت لهم حياة اجتماعية شبه عادية، واندمجوا بشكل كبير في جدة. وفي الجزء الأخير من المحاضرة، تناول بتريات انتقال الأوروبيين من جنوبجدة إلى شمالها وسط القرن ال 19، وفي عام 1303ه كان هناك أوروبيون يعيشون في بيوت مستأجرة كانوا يتقاسمونها مع أناس عرب ومسلمين. وفي ختام المحاضرة، عرض بتريات بعض الصور النادرة لتلك المرحلة في جدة، ومنها صورة لميناء جدة عام 1895م. وفي الفترة المخصصة للمداخلات، اعتبر الدكتور عبدالله مناع، أن هذه المحاضرة تعكس سمواً لفرنسا أكثر من جدة، لأن فرنسا لم تكن تهتم بتاريخ جدة إلا لعظمتها واهتمامها بالعالم. وقال إن المحاضر خدم فرنسا، وجدة في الوقت نفسه، وإنه كان يتمنى لو قدم تفاصيل أكثر عن التمازج بين سكان جدة والأوربيين آنذاك. وسألت الدكتورة بديعة كشغري عن تفاصيل أكثر حول فتنة جدة، فيما أشار الدكتور زيد الفضيل إلى أن لديه صرخة يَوَدُّ أن تصل للجامعات، مفادها أن النظام التعليمي في الغرب يعمل على دفع الشباب للأعلى، مدللاً على ذلك بالباحث الفرنسي الشاب الذي سيأخذ الدكتوراة قريباً، وهو لم يصل لعامه الثامن والعشرين. وفي ردوده على المداخلات، قال فيليب بتريات إن مصادر دراسته أوروبية، وإنه مهتم بتاريخ العوائل الحضرمية التجارية في جدة. وذكر أن أسباب فتنة جدة كانت تجارية. وحول صفات جدة في القرن ال 19، أوضح بتريات أن أغلب بيوت جدة كانت مصنوعة من القصب، وأن جدة كانت تصدر الجلود، بالإضافة إلى اللؤلؤ والتمور، وأن الدور الكبير لجدة كان في إعادة التصدير. جانب من الحضور (تصوير: يوسف جحران)