فجأة، ومن دون سابق إنذار، وبعد استخدامها للفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يدين نظام الأسد، الذي يتهم الغرب بالعمل على تدويل «الأزمة» السورية، طرحت موسكو قبل أيام قليلة مشروع قرار بشأن سورية في مجلس الأمن! ويعدّ مشروع القرار هذا على تواضعه وعدم توازنه، تحوّلاً في الموقف الروسي المدافع عن النظام، وإن رأى البعض فيه محاولة لإطالة أمد الأزمة. ويكمن التحول في أن المشروع المقترح شئنا أم أبينا يدوّل الملف السوري عبر نقله إلى مجلس الأمن، وهو ما كان يرفضه النظام وحلفاؤه. وعلى الرغم من أن المشروع لا ينص على عقوبات بحق النظام السوري، فإنه يشير إلى إدانة العنف «من جميع الأطراف» على حدّ وصفه. صحيح أن المشروع يساوي بين الجلاد والضحية، لكن المهم في الأمر أنه يدين النظام السوري أيضاً في نص العنف. ما لاحظه الجميع هو أن القرار أتى في ظل تظاهرات اندلعت في موسكو احتجاجاً على الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث حشدت المعارضة للمرة الأولى في تاريخ روسيا المعاصرة عشرات الآلاف من المتظاهرين، الذين يعتقدون أن الانتخابات شابها عمليات تزوير واسعة لصالح حزب روسيا الموحدة، الذي يتزعمه رئيس الوزراء فلاديمير بوتين؛ ولذلك قام البعض بتفسير الخطوة على أنها تأتي لدرء المخاطر عن الجبهة الداخلية؛ كي لا يبدو بوتين في صف الديكتاتوريين في الشرق الأوسط، وهو المُخَطِّطْ للعودة إلى الرئاسة الروسية قريباً، ولتحويل الأنظار إلى سورية بدلاً عن الانشغال المحتمل للقوى الكبرى بالملف الروسي الداخلي. ما لم يلحظه كثيرون هو أن مشروع القرار الروسي جاء بعدما نقلت وسائل الإعلام خبراً مر مرور الكرام، مفاده «قبول روسيا في منظمة التجارة العالمية بعد 18 عاماً من المفاوضات»!، وهو ما يدفع إلى الربط بين الخبر والانعطاف المفاجئ في سلوك موسكو، علماً بأنه، وفي حال سلّمنا إلى طبيعة الربط، لن تكون المرة الأولى التي تقبض فيها موسكو ثمناً مقابل تغيير موقفها، فتفضل التفاهمات الثنائية مع اللاعبين الكبار على أن تتمسك بورقة خاسرة. الموقف الروسي من النظام السوري ليس مرتبطا بأي معطيات استراتيجية؛ فحجم التبادل التجاري بين البلدين لا يتعدى %ص3 من إجمالي التجارة السورية، كما أن صفقات التسلح ليست أكبر في حجمها من تلك التي خسرتها موسكو نتيجة للإطاحة بالقذافي، البالغ قيمتها أكثر من أربعة مليارات دولار. في المقابل، يتوقع بعض الخبراء أن يؤدي انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية إلى قفزة نوعية في حجم الاقتصاد الروسي تشبه القفزة الصينية، وسيكون بإمكان موسكو استيراد السلع من أكبر شركائها التجاريين «الاتحاد الأوروبي» بمبلغ أقل بكثير مما تدفعه حالياً، ناهيك عن أن هذا النجاح قد يسجل لاحقاً باسم بوتين.يحاول البعض إقناعنا منذ فترة بأن موسكو ستقف في وجه العالم أجمع، وأن هدفها محاربة الإمبريالية والاستعمار، فيما يغفل هؤلاء أن روسيا ليست الاتحاد السوفيتي، وأن كل ما تريده موسكو بموقفها المتعنّت إلى حين هو رفع السعر فقط لا غير.