يقول عبدالرحمن منيف «في أحيان كثيرة الكلمة تحيي وتميت، لكن أغلب الناس لا يدركون ذلك». لماذا نشعر بضرورة إبداء رأينا في الآخرين حتى لو لم يطلب منا؟ لماذا يتحتم علينا توزيع آرائنا بسخاء إيجابية كانت أم سلبية؟ ما الذي يدفعنا لإعطاء الآخرين نقداً لعيوبهم أو تصرفاتهم دون أن تربطنا بهم علاقة تلزم ذلك كأداء عمل أو واجب؟ لماذا يخفق بعضهم في رسم الخط الفاصل بين الصراحة والوقاحة؟ كيف يتباهى بعضهم بفظاظتهم معتقدين أنها صراحة وأن الآخرين مستعدون بل ومرغمون على سماعها؟ ثم من قال إن الصراحة بتلك الصورة مطلب أو ضرورة؟ كنت أجلس مع مجموعة من الصديقات في إحدى الحدائق العامة بينما يلعب أطفالنا بالقرب. قامت إحداهن مشكورة بتقديم القهوة العربية لنا. شربت السيدة التي كانت تجلس إلى جواري رشفة واحدة ثم سكبت ما تبقى من قهوة في فنجانها الورقي على العشب وقالت وهي تومئ بيدها لصاحبة القهوة: «قهوتك هماج»! عرفت فيما بعد أن ذلك الوصف يطلق على المشروب غير المستساغ طعمه أو الذي لا يصلح للشرب. لاشك أنه تعليق غير مهذب لشخص قام بإكرامك حتى لو لم يعجبك ما قدمه لك «فأحمد البلاغة الصمت حين لا يحسن الكلام». سيدة أخرى نصحت إحدى الحاضرات في مجلس قائلة لها «يبي لك إبرة بوتوكس هنا -وهي تشير لنقطة التقاء حاجبيها- وتصيرين صاروخ!» لكني أعتقد أن الصاروخ كان أجدر به وأولى أن يطير بلسانها حتى لا يفيض على الملأ سيل آرائها المتطفلة والفظة. لا بد أنه مر في شريط حياتكم وعلاقاتكم أناس يتباهون بصراحتهم المفرطة معتقدين أنهم يتسمون بالصدق والوضوح، ولا يجيدون اللف والدوران حيث إنهم «يعطونها في الوجه»، أو «على بلاطة»، أو «في الجبهة»على حد تعبيرهم. بعضهم الآخر يشعر بالزهو والفخر لشجاعته -على حد زعمه-، وعدم اكتراثه بتهذيب وتقنين ما يقدمه من درر الآراء.. ولا أعلم من الذي أقنعهم بأن ذلك فضيلة بل وشجعهم على الاستمرار في ذات النهج. هم نفسهم ينظرون بعين الريبة لمن يتحدث بلباقة واصفينه بأنه ذو مصلحة وإن لم يكن فهو محابٍ أو على أحسن تقدير «كذاب أشر». إن إبداء الرأي دون أن يطلب منك فيه منقصة للتقدير وقتل للهيبة، فلا أقل من أن يرد عليك أحدهم بقوله «وش دخلك؟». القاعدة في ذلك بسيطة، قبل أن تقول رأيك في أحد ما اسمعه وتخيل أنه قيل لك، هل كان سيعجبك سماعه؟ فلا أفضل من ذلك ميزان بالقسط والله يحب المقسطين.