روى الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان ذات مرة نكتة في أحد خطاباته قال فيها:" يُقال إن الحكومة الأمريكية وعدت الشعب بأن تجد له الحل لكل مشكلة .. لكن يبدو أنها في النهاية أصبحت هي المشكلة !".. ضحك الحاضرون طويلاً، لكن ريغان كان يدرك أن وراء النكتة رسالة عميقة. إن الدعابة ليست هروبًا من الجدية؛ بل أسلوب ذكي لقول الحقيقة بطريقة يتقبلها الناس. هذه القدرة على توظيف حسّ الدعابة في المواقف الرسمية هي ما يُعرف اليوم في عالم الإدارة الحديثة ب القيمة الترفيهية في القيادة (Entertainment Value in Management). وخلال عملي الطويل في الخطوط الجوية السعودية لمست هذه القيمة في أبهى صورها من خلال عدد من القادة، الذين عرفوا كيف يجعلون من بيئة العمل مساحة تجمع بين الانضباط والمتعة. كانوا يؤمنون أن الابتسامة الصادقة والروح الإيجابية ترفع من الإنتاجية وتبني الثقة تمامًا، كما كان ريغان يستخدم الدعابة لتمرير رسائل جادة بذكاء ولباقة. أتذكر الكابتن عبدالله وزنه؛ ذلك الطيار المحترف الذي جمع بين الصرامة في قمرة القيادة، وخفة الظل في التعامل اليومي. كان يضبط كل التفاصيل بدقة أثناء الطيران، لكنه كان يخلق أجواءً مليئة بالثقة والاحترام من خلال تعليق لطيف أو ملاحظة طريفة. لقد كان يؤمن أن القائد الجيد هو من يعرف متى يكون صارمًا، ومتى يجعل فريقه يبتسم، ثم يأتي الأستاذ سليمان قابل مدير عام الشحن الذي اشتهر بروحه المرحة وشخصيته الاجتماعية الجاذبة. كان يدخل الاجتماعات بابتسامة ويخرج منها بنتائج ملموسة؛ لأنه كان يعرف أن الناس يتفاعلون مع القائد الذي يضحك معهم لا عليهم. كانت دعابته وسيلته لإدارة العقول والقلوب معًا، حتى صار محبوبًا في كل أرجاء المؤسسة. أما الأستاذ عبدالله الطيب رئيس قطاع الخدمة الجوية؛ فكان نموذجًا للقائد الطيب المتواضع، الذي لا تفارقه الابتسامة حتى في أكثر الأوقات توترًا. كان يمازح زملاءه باحترام ويلقي النكات، ويشاركهم الهموم بروح الأب والصديق؛ فيزرع الطمأنينة ويُعيد الدفء إلى العلاقات المهنية. لقد مثّل القيادة التي تُمارس تأثيرها بالحبّ والابتسامة لا بالهيبة. إن"القيمة الترفيهية" في الإدارة ليست تسلية، أو ترفًا بل هي رافعة إنسانية عميقة تجعل العمل أكثر فاعلية ودفئًا. هي التي تُخفف ضغوط الأداء، وتفتح مساحات للإبداع، وتحوّل الاجتماعات الجافة إلى حوارات حيوية؛ فالقائد الذي يُدخل السرور إلى قلوب موظفيه يُدخل الطاقة إلى منظومته، ويجعلهم يعملون بحماسٍ نابع من الداخل لا من التعليمات، وهكذا كما استخدم ريغان الدعابة لبناء الجسور بين القادة والشعوب، فإن المدير الذي يُحسن توظيف روح الترفيه في عمله يبني جسورًا بين الإدارة والإنسان. فالقليل من الدعابة الصادقة قد يحقق ما تعجز عنه مئات القرارات الجافة؛ لأنها ببساطة تذكّرنا بأننا بشر قبل أن نكون موظفين، وأن القيادة الناجحة ليست فقط في الإنجاز؛ بل في فنّ الإمتاع الإنساني.