محمية الإمام عبدالعزيز بن محمد تزيل أكثر من 719 ألف طن من الأنقاض    زيارة ترمب للمملكة تجدد التأكيد على عمق العلاقات السعودية الأمريكية وشراكة متعددة الأبعاد    الصين من النسخ المقلد إلى صناعة المتفوق    وسام استحقاق المجلس الأولمبي الآسيوي لابن جلوي    رباعيات «الزعيم العالمي» تعود    خطوة واحدة يا عميد    غرامة 20,000 ريال للحج بلا تصريح    الدفاع المدني: لا تستخدموا المصاعد أثناء الحرائق    70 % من مرضى الربو يعانون من حساسية الأنف    المملكة.. حضور بلا ضجيج    المملكة شريك موثوق في صياغة الحلول ودرء الأزمات    ترمب في السعودية.. الدلالات والمآلات الاستثمارية    النفط يرتفع مع تخفيف حدة النزاع "التجاري العالمي"    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة ينظم المؤتمر الأول للأمراض الجلدية    نظير إسهاماته في تنمية الحركة الأولمبية .. المجلس الأولمبي الآسيوي يمنح"ابن جلوي"وسام الاستحقاق    عبدالعزيز بن سعود يرعى تخريج 1935 طالباً في كلية الملك فهد الأمنية    فهد بن سلطان يستعرض جهود «الكهرباء» في تبوك    تعليم المدينة ينفذ إجراءات التوظيف التعاقدي ل1003 مرشحين    «المتحف الوطني» يحتفي باليوم العالمي للمتاحف    الحرف اليدوية.. محاكاة الأجداد    مكتبة الملك فهد الوطنية تطلق خدماتها عبر «توكلنا»    «الشؤون الإسلامية» بجازان تحقق 74 ألف ساعة تطوعية    من كوينسي إلى نيوم.. "ترمب" يعود إلى الرياض    ضمن مبادرة"مباراة النجوم".. القادسية يستضيف 30 شخصاً من ذوي الإعاقة    3 أيام لمعالجة عوائق التصدير    تعاونية جامعة الملك سعود تعقد إجتماع عموميتها الأثنين القادم    "الشريك الأدبي" في جازان: حوار مفتوح بين الكلمة والمكان    طلب إفلاس كل 6 ساعات عبر ناجز    استقرار معدلات التضخم عند 2% بدول الخليج    الشؤون الدينية تطلق خطتها التشغيلية لموسم الحج    سمو ولي العهد يستقبل لاعب المنتخب السعودي لألعاب القوى البارالمبية عبدالرحمن القرشي بمناسبة تحقيقه ذهبية دورة الألعاب البارالمبية في باريس    حماية مسارات الهجرة بمحمية الملك    الهلال يستمر في مطاردة الاتحاد بالفوز على العروبة    التحالف الإسلامي يدشن مبادرة لتعزيز قدرات فلسطين في محاربة تمويل الإرهاب وغسل الأموال    مجلس الوزراء: نتطلع أن تعزز زيارة الرئيس ترمب التعاون والشراكة    ٦٠ مراقبا ومراقبه في ورشة عمل مشتركة بين الأمانة وهيئة الغذاء    حفل ختام وحدة الثقافة والفنون بكلية الآداب في جامعة الإمام عبدالرحمن    محافظ الطائف يكرّم الجهات المشاركة في برامج وفعاليات أسبوع المرور    "مبادرة طريق مكة".. تأصيل للمفهوم الحقيقي لخدمة ضيوف الرحمن    ورشة "قرح الفراش" ترفع الوعي وتعزّز جودة الرعاية في منازل مستفيدي القصيم الصحي    وداعًا يا أمير التنمية والإزدهار    إنقاذ مريضة تسعينية من بتر الطرف السفلي    الناصر: أرامكو أثبتت قوة أدائها وأرباحها ر    حاجة ماليزية تعبر عن سعادتها بالقدوم لأداء فريضة الحج    أمريكية وابنها يحصلان على الماجستير في اليوم نفسه    الهروب إلى الخيال..    اعتماد 32 عضوًا بالمجلس الاستشاري للمعلمين    فريق كشافة شباب مكة يكرّم الأحمدي    نُفّذ لتحسين سبل العيش في محافظة لحج.. فريق مركز الملك سلمان يطّلع على مشروع «التمكين المهني»    انطلق بمشاركة 100 كادر عربي وأوربي.. أمين الرياض: «منتدى المدن» يعزز جودة الحياة ويقدم حلولاً مشتركة للتحديات    بتنظيم من وزارة الشؤون الإسلامية.. اختتام تصفيات أكبر مسابقة قرآنية دولية في البلقان    سورلوث مهاجم أتلتيكو يتفوق على ميسي ورونالدو    السعودية تقود المشهد من حافة الحرب إلى طاولة التهدئة    أسرة الجهني تحتفي بزواج عمّار    عودة «عصابة حمادة وتوتو» بعد 43 عامًا    المملكة تواصل ريادتها الطبية والإنسانية    أمير منطقة تبوك يرعى بعد غد حفل تخريج متدربي ومتدربات المنشات التدريبية    تخريج الدفعة ال 19 من طلاب جامعة تبوك الأربعاء المقبل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشك والوثوقية في العقل العربي
نشر في الشرق يوم 16 - 03 - 2014

في حالة أشبه ما تكون بدراسة الحالة للدوغما العربية وظاهرة الوثوقية في العالم العربي، لدي صديق من الذين أدمنوا الجزم في كل نقاش سواء أكان دينيا أو سياسيا أو حتى رياضيا، مع أن خلفيته العلمية شرعية. كنا نتناقش ذات مرة عن موقع مثلث برمودا، فأجاب فورا بأنه جزما يقع شرق كندا. فقلت له قرأت كثيرا عن هذا المثلث وأظنه وفق ما أتذكر شرق فلوريدا، فلم يتزحزح ظاهريا أمامنا عن رأيه، لكنه يبدو أنه شك داخليا في معلومته فذهب يقلب عبر الهاتف الجوال في جوجل، فوجد أنه مثلث يقع شرق مدينة ميامي. فرفع رأسه وقال يقع شرق ميامي، قلت وفي أي ولاية تقع ميامي، فأطرق رأسه ولم يجب. قابلت هذا الصديق مذ جئت من البعثة ومنذ اكتشفت أنه من هذه الفئة الدوغمائية أخذت على نفسي نذرا بأن أحاول تحويله من مرحلة الوثوقية إلى التحوط ومن القطعية إلى الظنية في التعاطي مع المعرفة. ووضعت لنفسي هدفا كعلامة على هذا التحوُّل، وهو أن ينتقل في مفرداته من تلك المفردات الوثوقية إلى المفردات الاحترازية، أن يقول ربما عوضا قطعا، وفي ظني عوضا عن جزما. كنت أظن أنه سيتنبه إلى هذا في أسبوع أو أسبوعين، شهر أو شهرين، لكن المفاجأة أنه لم يتنبه إلى هذا إلا في السنة السادسة من لقائنا.
الذهنية العربية بشكل عام لديها إشكالية الوثوقية واليقين والنزعة إلى اعتقاد أنها امتلكت ناصية الحقيقة والجزم بمعرفة الكلمة الأخيرة. من أكثر الكلمات الشائعة في تداولاتنا الحوارية، جزما، قطعا، جميعا، كلهم، وما شابهها من المفردات التي تدل على الإحاطة والوثوقية، ومن أقل المفردات التي نستخدمها مفردات من مثل لعل، ربما، قد يكون (للتشكيك)، يبدو، من الممكن، ونحوها من الكلمات التي تدل على الشك والتحوّط. نرى أن عدم الإجابة عن أي سؤال عيب ونعتقد أن محاولة الرد حتى ولو بإجابة لا تمت للسؤال بصلة أمر رائع ويحتوي على شرف المحاولة. « لا أدري» منبوذة « ولا أعلم» نادرة السماع في ثقافتنا.
هذا يشير إلى أن إشكالية الوثوقية ربما تكون متغلغة في أذهان شريحة كبيرة من مجتمعاتنا، والوثوقية وإن كانت تعني في ظاهرها الراحة والوضوح وتجعل صاحبها ينتشي بشعور امتلاك الحقيقة، إلا أنها في حقيقة الأمر داء خطير يورث الكسل الذهني ويحيل الإنسان من ذهن متقد مملوء بالأسئلة متوثب بالتشكك إلى مجرد حاضنة أفكار عتيقة ومستعمرة لأخبار مخلوص من شأنها وناجزة. وظيفته في عالم المعرفة ليس التساؤل والتردد وإنما الاستقبال والتكرار والترنّم.
وبالمثل، كما يبدو الشك من المفردات المثيرة للريبة غير المرغوب بها في منظومتنا الأخلاقية، فما لا يدركه البعض هو أن الشك في العلم والمعرفة ظاهرة صحية وأداة مهمة لفحص المعرفة وتنقيتها من الأمور الزائفة. حين تشكك في معرفة جاءتك من طرف آخر، فغالبا ما يشعر الطرف الآخر، خصوصا من ثقافتنا العربية، بشيء من التخوين وعدم صلاحيته لحمل الأمانة العلمية، والحقيقة أن هذا التشكيك في كثير من الأحيان لا يمت إلى الناقل بصلة بقدر ما يركز على حرص ذلك الإنسان وحيطته في بناء منظومة المعلومات لديه، وحرصه على تنميتها وإثرائها بطريقة علمية حذرة.
وحول الشك واليقين يعُد النمساوي كارل بوبر المولود سنة 1902 من أهم فلاسفة العلم في العصر الحديث الذي ناقش إشكالية القطعية والوثوقية في المعرفة والنظريات العلمية. ولد بوبر عام 1902 في مدينة قريبة من فيينا «النمسا» داخل أسرة مثقفة، فأبوه لم يكن محاميا وحسب، وإنما كان ذا ميول أدبية واهتمامات بعلوم التاريخ والفلسفة والموسيقى الكلاسيكية. وعلى غرار أبيه، سار بوبر في دروب العلم فدرس الرياضيات والتاريخ وعلم النفس والموسيقى، حتى حصل على درجة الدكتوراة في علم النفس الإدراكي عام 1930م. اشتهر بوبر بحضوره في فلسفة العلم وبإحداثه ثورة في المنهجية العلمية ونقل العلوم في الحقول العلمية من مرحلة النواجز التي لا تحتاج إلا إلى التسليم لها والدفاع عنها، إلى مرحلة البقاء في مرحلة الشك الدائم والتساؤلات المستمرة حتى يأتي فتح جديد ربما يجتث النظرية أو الحقيقة السابقة ويُحل محلها نظرية جديدة، تأخذ مكان النظرية السابقة في استقبال الشكوك الجديدة والتساؤلات الوليدة، وهكذا تستمر سلسلة التطور العلمي والمعرفي بنظريات تحطم النظريات السابقة وتفتح آفاقا جديدة في العلم. وعلى هذا فالمعرفة في التصور البوبري ليست عبارة عن تراكمات علمية تجريبية، يبنى بعضها على بعض، كما صورها ديفيد هيوم ومن تبعه من فلاسفة العلم، وإنما عبارة عن مادة ديناميكية متحركة متطورة، عبارة عن مباراة أو مبارزة ذات بداية لكنها مفتوحة النهاية، وأي طرف فيها يظن أنه قال الكلمة الأخيرة، فهذا لا يعني صدق ما قال بقدر ما يعني إفلاسه وانسحابه من المواصلة في مبارزة العلم، ومن ثم انتهاءه واحتراق ما جاء به من معرفة.
في مفهوم الحقيقة، بعد أن عاصر بوبر تدمير النظرية النسبية لأنشتاين لبعض النظريات الفيزيائية التي كان ينظر إليها على أنها مسلمات علم لا تقبل الدحض أو التفنيد، لما رأى هذا جاء بتحديد جديد ومهم في تعريف الحقيقة وهو قابليتها للفحص والتمحيص. وهذا يعني أن أي حقيقة أو معرفة تعرض على أنها مسلمة مطلقة فالأقرب أنها باطل مطلق، لأنها لم تجتز محكات النقد، ولم تتعرض للفحوصات التي تتلمس مواطن الخلل وتناقش مكامن العلل.
والحال كذا، لا نعلم كيف ستكون ردة فعل بوبر لو مرَّ على عقلياتنا العربية، التي لم تؤسس على التجارب ولم تعرف معنى المختبرات والحقول العلمية، وإنما على كثير من الخرافة والأساطير والشعوذة.
بهذه الذهنية الوثوقية، أصبحنا نتبوأ المركز الأخير في أي منافسة دون منازع، سواء في الاختراعات العلمية أو في المسابقات الرياضية، أو في التصنيفات العلمية. اطلعت على التصنيف الأخير للدول العربية في مهارة القراءة للعام 2011، الذي شاركت فيه 59 دولة، ولم أكلِّف نفسي باستعراض القائمة من أولها للبحث عن الدول العربية. كل ما كان علي هو أن أقلب القائمة من أسفل لأبحث من الأخير وفعلا بدأت الأسماء العربية تخرج واحدا تلو الآخر حين قلبت القائمة. كنت أود إعداد الدراسة التي تحت يدي عن مقارنة مستويات القراءة في العالم العربي ببقية دول العالم، لكن نتائج دولنا العربية جعلت هذا الهدف غير ذا قيمة علمية، لأن الفروقات بيننا وبينهم شاسعة، مما اضطرني إلى تحويل هدف الرسالة من المقارنة مع العالم على التنافس حول المقدمة، إلى المقارنة بين الدول العربية في قدرتهم على صدارة المؤخرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.