في سنة 1934م وصل الى الرياض المستشرق والمفوض السياسي البريطاني بدولة الكويت ( جيرالد دي غوري ) على سيارته موديل 1933 م قاطعا تلك المسافة بين جدةوالرياض بما يقارب ستة أيام حيث استقبله على ابواب العاصمة سكرتير الملك يوسف يس وقبل أن يأخذه الى القصر تربع على الأرض وأصغى إلى آخر الأخبار من الراديو في منزله بطريقة سريعة لينقلها للملك . عبروا بعدها ممرات القصر أثناء ما شعر أن المرء ليتيه هنا في ممرات القصر أكثر مما يتيه في الرياض نفسها مكملين طريقهم عبر الردهة المضاءة بالقناديل حتى بدا له الملك عبدالعزيز بقامته البالغة ست أقدام وأربع بوصات عملاقا كحجم جبل حتى بين رجال الحرس البدو العمالقة المنتقين بعناية كما قال . يصف بعد ذلك بقية لقائه بالملك عبد العزيز ( قافلة الحبر ) بعد أن مد له يده وشده بقوة ليجلس على يمينه على السجادة الفارسية الصنع وقد ابتسم وهو يطرح الأسئلة حول الرحلة والطريق . قائلا : لم أرَ في حياتي ابتسامة طاغية أكثر من هذه الابتسامة (ان لبعض الحكام العرب سحراً طاغياً ) وكانت ابتسامة بن سعود مليئة بالرجولة ولهجته مليئة بالثقة ويتحدث بعربية فصحى يلونها بأقوال بدوية بين حين وآخر . وما أن يبدأ بالحديث حتى يتحول كلامه الى فيضان لا يوقفه شيء الا الدعوة الى صلاة الظهر إن قوة هذا الزعيم كما يبدو لي في ذكائه الخارق . كان معاونوه ورجاله وهو ايضاً يتفحصون جميع القادمين اليه من الزوار بعناية تاركا زواره ينطلقون في سجيتهم في الكلام بهذا الجو من المآدب السخية والهدايا . غير أن سحره الشخصي وتفهمه يظل أقوى من أي شيء آخر لكل ضيوفه القادمين من داخل وخارج البلاد حتى طافت داره بالمعجبين والمحبين. وفي ختام زيارته الاولى وصف أهل الرياض ان بعضهم يدخنون في الخفاء أما الملك فانه قطعا لم يمس سيجارة في حياته . استقل بعد ذلك سيارته عائدا الى الكويت بعد ان تلقى هدية بشت من وبر الإبل وغترة وعقال وخنجر الا انه عاد الى الرياض بعد سنة حاملا للملك ارفع الأوسمة التي تقدمها انجلترا للشخصيات البارزة مع رسالة من الملك جورج عنونها بعبارة ( من ملك بريطانيا .. تحياتي الى العاهل الكبير ) ويصف بعد ذلك لقائه الثاني بالملك ومراسم تسليم هدية ملك بريطانيا : فتحت صناديق الهدايا التي أحضرتها من حكومة انجلترا وسلمتها الى عبدالرحمن الطبيشي كبير مرافقي الملك وقد جرت العادة ان يقوم زواره العرب الكبار بتقديم الهدايا لحظة وصولهم إما عن طريق المرافق او السكرتير ولا يعاد يؤتى على ذكرها بعد ذلك لا من الزائر ولا من المضيف وحين يغادر الزائرون يحمل السكرتير اليهم الهدايا من المضيف ايضا من دون ان يشير اليها أيَّن من الفريقين ومن العادات ايضاً ان يقدم المضيف الهدية فورا الى احد القريبين منه لكن يجب أن يؤخذ ذلك كتكريم وليس العكس كذلك ومن الأفضل تجنب كتابة أي عبارات إهداء . من ملك بريطانيا .. تحياتي إلى العاهل الكبير الملك عبدالعزيز كانت الشؤون الملكية لا تزال تدار في القصر القديم داخل الأسوار المعروف بقصر فيصل نسبة الى جد الملك وقد نقلنا الى هناك في إحدى سيارات الملك من اجل لقاء غير رسمي عبر سهل خارج أسوار المدينة حيث يقوم مناخ الجمال للزوار القادمين من أنحاء الجزيرة انهم يأتون للقاء الملك وتقديم الولاء والاحترام وإذا كان لديهم مطالب او شكاوى عرضوها ويعطى كل منهم الهدايا وفقا لمكانته وقد تكون الهدية فرسا او أسلحة او أكياساً من الأرز لكنها تشمل دائما الكسوة او عباءة الشرف وأحيانا الذهب في مثل هذه المناسبة بالصيف يكون قسم المحاسبة بالقصر مشغولا من الصباح الى الليل .كان هناك جماعة كبيرة عند بوابة المدينة وفي الطريق الرملي المؤدي الى قصر فيصل والقصر القديم الواقع في قلب عاصمتهم هو بالنسبة الى أهل الجزيرة مثار اهتمام تاريخي كبير كمثل قصر ( السان جيمس ) في انجلترا بالنسبة الى الانجليز وعلى مسافة قصيرة من قصر فيصل في شارع ضيق تقع قلعة المصمك التي هاجمها بن سعود مع حفنة من رجاله وانتزعها من الحاكم الرشيدي الموالي للأتراك في العام 1901م وكان بن سعود قد انتظر مختبئاً مع رجاله حتى الفجر حيث اعتاد الحاكم حينها ان يتفقد خيوله عند بوابة المصمك وذلك الصباح فاجأته الجماعة الصغيرة الشجاعة هو ورجاله وبعد قتال ضار في ساحة المدخل , حيث لا يزال الرمح عالقاً في البوابة قتل الحاكم وهزم حرسه وتم استرداد العاصمة. ويمضي الى القول بانه ليس من السهل على المرء ان يصف جناح العمل في القصر حيث معظم مكاتب الحكومة كما في ايام الخلفاء الراشدين لان ذلك بعيد عن معرفتنا , ومهابة بن سعود تطغى على القصر والقلعة والمدينة ويشير اليه الناس فيما بينهم بلقب (الشيوخ ) ذهب الشيوخ .. جاء الشيوخ .. الشيوخ يصلون .. الشيوخ في الصيد هذه الأخبار تعرفها ساعة بساعة في عاصمة مليئة بالحركة مثل قفير النحل قادنا كبير المرافقين مباشرة الى المختصر في مجلس بن سعود وعبره الى الديوان الملكي كان للديوان نوافذ تطل على ساحة اما الجهة الأخرى فكانت مفتوحة على طاقات تطل منها الشمس بحيث يمكن رؤية القادمين دون ان يروا قلب الردهة . الأرض مغطاة بسجاد فارسي احمر في قلب القاعة التي في آخرها كان الملك يقف وحيدا منتصب القامة مثل الرمح وهذه الوقفة الدقيقة مثل العسكريين هي عادة الأمراء والنبلاء العرب في استقبال ضيوفهم . كان جامداً شامخاً تتدلى عباءته من فوق كتفه حتى الأرض بتكسرات منتظمة مثل شلال وكان ثوبه بسيطاً أنيقا ومرتباً بدقة مصنوعا من مادة رمادية تأتي عادة من دمشق وتعرف باسم ( صدر الحمام ) وغطرته من الصوف الأسود والقصب الذهبي وهو النوع الذي لا يعتمره في نجد سوى الملك ومن يتشرفون بهدية مماثله منه. جسمه ضخم متناسق . انفه بارز لكنه معتدل . ابتسامته عذبه تكشف عن أسنان مرتبه بشرته بيضاء حرقتها الشمس كثيرا في الماضي وفي يده اليمني ندبة من جرح قديم أصيب به في إحدى المعارك كما أصيب في رجله بجرح تتجدد آلامه كلما تغير الطقس إلى البرودة. وهو متحدث متّقد لا يتعب وإذا لم يعثر على جواب من سامعه أياً كان . فان على معاونيه ان يستمروا في البحث الى أن يعثروا على الجواب . وتستخدم في القصر عادة الموسوعات والمراجع وليس في الرياض صحيفة لكن الاخبار البرقية تقرأ للملك مرتين في اليوم أما بالنسبة الى بعد نظره وحكمته فيقول رجاله إنه ( أسرع من البرق). يتكلم الملك بثقة مطلقة بالنفس وببلاغة أنيقة ويثري كلامه بالأمثال العربية القديمة وأقوال البدو وآيات من القرآن الكريم . وحين يتحدث في أمر دبلوماسي أو سياسي يتكلم عادة بالتفصيل . مثبتاً بالحقائق أمام سامعه بوضوح شديد , نقطة ..نقطة الى أن يصل الى ذروة القول فينحني قليلا الى الخلف ويغير جلسته قليلاً . ويرسم ابتسامة جذابة مهذبة . إن اتقاده ووضوح وجهة نظره أمر يبدو رائعا في أي مكان .