إن التطور الجديد في الدرعية بدأ مع مُفتتح القرن العاشر الهجري حيث أصبحت الدرعية البلدة الكبيرة والقوية مما جعلها مكاناً لبدء حقبة سياسية تحت قيادة الجيل الأول من سلالة إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي كنت أراجع بعض المواد التاريخية والأثرية لصالح الهيئة العليا لتطوير الرياض التي تقوم على تطوير الدرعية التاريخية. ولفت انتباهي سؤال عن الاستيطان البشري ومن ثم التكوين السياسي في الدرعية أو ما حولها. متى بدأ وكيف بدأ. وهو سؤال يأخذني بعيداً عن العمل الذي أقوم به، لكنه في الوقت نفسه سؤال لا غني عنه، بل ربما أجد فيه إجابات لمسائل لا زالت عالقة في ذهني تعود إلى القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي. ولما عدتُ لأوراقي القديمة ووجدت إشارات مستلة من كتاب رائع في بابه، وهو كتاب أخي الدكتور عبدالله بن محمد الراشد وعنوانه: الاستيطان في وادي حنيفة من القرن الأول الهجري حتى منتصف القرن التاسع الهجري. والكتاب عبارة عن رسالة ماجستير أنجزها صاحب الكتاب في قسم الآثار بجامعة الملك سعود. أما الكتاب فقد طُبع عام 1420ه لقد استفدت من ملحوظات الباحث وتعليقاته. وهو بدأ بحثه قبل قيام الدرعية التي كان لها صيت واسع منذ القرن الثاني عشر الهجري. لكن أول إشارة تاريخية لها تعود للتأسيس الثاني لبلدات نجد في منتصف القرن التاسع الهجري أو ما قبله بقليل حسب رواية المؤرخ محمد بن عمر الفاخري (ت 1277ه). أما التأسيس الأول لبلدات نجد فهو حتماً قبل الإسلام، ولدينا إشارات تاريخية عديدة عن الاستيطان المبكر تعود للقرن الأول قبل الميلاد، ناهيك عن ما كشفه المسح الأثري عن مواقع تعود إلى العصر الحجري (8000-3500 ق.م.) لكن ما يهمنا في هذا الحديث هي الإشارات منذ منتصف القرن السادس الهجري، وفيه قامت بلدات كثيرة على أغلب أودية نجد الكبيرة ومنها وادي حنيفة الذي يُقدر طوله بثمانين كيلا. يتميّز وادي حنيفة - عصب حياة الدرعية - الذي تقع على ضفافه بلدة الدرعية بجريانه عكس أودية منطقة العارض (اليمامة قديماً) التي تنطلق من مرتفعات سلسلة جبال طويق متجهة إلى الشرق، بينما وادي حنيفة فينطلق من الجهة الشمالية متجهاً إلى الجهة الجنوبية مع انحراف ضئيل نحو الجهة الغربية. ليست هذه الميزة الوحيدة لهذا الوادي، وهو يتميّز بعدد من الوديان الفرعية تنطلق من السلسلة الجبلية نفسها، وتُشكل أودية قائمة بذاتها، مما جعل المحصلة القيمية لكامل المنطقة أن أضحت مكاناً جاذباً للاستقرار والاستيطان، ومن ثم قيام بلدات ذات تأثير كبير توسعت فيما بعد وصارت مراكز حضارية وعواصم لدول سياسية. وتأتي الدرعية أنصع مثال على هذا الاستنتاج. كل هذا وغيره يجعلني لا أميل كثيراً إلى كون الدرعية قامت منذ منتصف القرن التاسع الهجري. هذا هاجس أبثه بين يدي القارئ والمهتم بتاريخ المنطقة. إن أنماط الاستيطان من بيوت وسدود ومنشآت وشبكات مائية وامتداد بشري لم يكن يأتي مرة واحدة. إن تاريخاً يقبع تحت كثبان الرمال التي تحاصر الدرعية ويخفي حقيقة تاريخ تأسيسها. وأنا أعرف أن الجغرافيا والمناخ لا يقرران طبيعة التجمعات السكنية، ولكنهما بطبيعة الحال يقرران المنتج المادي، لهذا كله فإن طبيعة وادي حنيفة وروافده لها تأثير واضح على شكل مدينة الدرعية وتمددها، وكذلك على طبيعة الاستيطان المادي والبشري. وهو استيطان ولّد عصبية منذ القرن التاسع الهجري، ولم تكن - وهنا بيت القصيد – العصبية ابنة ليلتها، ولكن كانت لها خلفية تاريخية أقدم مما قاله الرواة والقصاصون. ولدي بعض الشواهد من ملحوظات واستنتاجات قال بها بعض المرتحلين الغربيين مثل سانت جون فيلبي الذي لاحظ أن بعض الخضروات والفواكه لابد أن تكون زُرعت على ضفاف الأودية النجدية منذ زمن أقدم بكثير من زراعة أشجار النخيل، التي يعدها كثير من المؤرخين بداية حقبة الاستيطان البشري في مستوطنات وادي حنيفة ومنها الدرعية. ومهما يكن من أمر فإن التطور الجديد في الدرعية بدأ مع مُفتتح القرن العاشر الهجري حيث أصبحت الدرعية البلدة الكبيرة والقوية مما جعلها مكاناً لبدء حقبة سياسية تحت قيادة الجيل الأول من سلالة إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، وهو في تقسيمات المؤرخين الرابع في سلسلة الحكام الذين حملوا فيما بعد اسم: آل سعود. من الاستعراض السابق المختصر لتاريخ الدرعية، يتضح أنه من المفيد ربط أجزاء تاريخ الدرعية وجعله في شكل سلسلة، يأخذ بعضه برقاب بعض. وبالتالي أرجو أن تدمج الهيئة العليا، التي تقوم على احياء الدرعية القديمة، تاريخ الاستيطان قبل منتصف القرن التاسع الهجري مع ما بعده. إن ما قبل منتصف القرن التاسع الهجري مقدمة منطقية لما بعده. بل إنني أحب أن أرى هذه المقدمة المنطقية مجسمة في المتاحف الخمسة التي سترى النور قريباً إن شاء الله.