باضوائهما الممتدة على هيئة ثعبان على قمتي تلتين تطلان على مدينة جنين وسبع من قراها وعلى سهل مرج بن عامر، مثلت مستوطنتا «غانيم» و«كاديم» سرا يستحق الاكتشاف لمن ولد في قريتي عابا ودير ابو ضعيف خلال السنوات العشرين الماضية. ورغم مغادرة ما تبقى من «سكانهما»، خلال الأيام القليلة الفائتة ظلت الأضواء البرتقالية تتراءى من شوارع هاتين المستوطنتين ليلاً. اما بيوتهما فلم يعد ينبعث منها أي ضوء، يدل على ان أحدا كان يوما يستوطنهما، وكأنها بذلك تقدم شاهدا حيا على حتمية زوال الظلم والطغيان. أسامة العبوشي شاب من قرية دير ابو ضعيف كان طفلاً عندما زرعت (إسرائيل) نواة المستعمرتين شرق جنين خاصة على اراضي قريتي عابا ودير ابو ضعيف، فوق مرتفع مطل على امتدادات شاسعة وعلى سبع قرى، ولا يشبهه مكان آخر في منطقة جنين. وبدأت مستوطنتا «غانيم وكاديم» - وعلى غرار ما اتبع في معظم المستعمرات في الضفة الغربية وقطاع غزة - باقامة معسكر لقوات الاحتلال وسرعان ما بدأت الوحدات السكنية الاستيطانية تنتشر حوله لتصبح فيما بعد مستعمرة «مدنية». وقد تسبب اقامة المستوطنتين في اوائل الثمانينات بمصادرة مساحات من الأراضي الزراعية التي قامت العائلات في دير ابو ضعيف وعابا باستصلاحها، حيث اجتثوا الأشجار الحرجية واستبدلوها بالزيتون واللوز. ويقول العبوشي: هناك في القريتين من جيل الآباء من انجبلت الأرض بعرقه ويعرفها معرفته بكف يده، وكانت بالنسبة له مثل الولد المدلل الذي لا ينفك يعتني به على مدار السنة، لكن هذه «الجنة» ضاعت من بين ايديهم مع اقامة المستعمرتين، واصبح كل من هؤلاء يرقب من بعيد ارضه والأشجار تجتث وتبنى مكانها مساكن لهؤلاء الغرباء دون ان يستطيع فعل شيء. وبخلاف المستعمرات الأخرى في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم يكن سكان هاتين المستعمرتين من اليهود المتطرفين بل كانوا علمانيين ويمثلون شرائح عليا في المجتمع الاسرائيلي، ولهذا ظلت علاقة هؤلاء المستوطنين على قدر من الهدوء مع جيرانهم الفلسطينيين، حيث كانوا يسلكون طريقا تمر من وسط القريتين مع عدم اغفال حقيقة انهم يقيمون على ارض مسلوبة. «مستوطنو كاديم وغانيم هم بالمجمل من موظفي الادارة المدنية والحكم العسكري، الذين كانوا يديرون شؤون الاحتلال في منطقة جنين، ولا يوجد متدينون بينهم. وهؤلاء يقدر عددهم بالمئات فقط، وهذا انعكس في قلة الحركة من والى هاتين المستعمرتين». واضاف العبوشي: بعد اوسلو جرى شق طريق التفافية للمستوطنين تتخطى القريتين وهو ما تسبب في مصادرة مساحات اضافية من اراضي المواطنين. وخلال سنوات الانتفاضة ولغاية الآن عمدت قوات الاحتلال الى اغلاق الطريق الرئيسية التي تربط قرى دير ابو ضعيف وعابا وجلبون وبيت قاد، وفقوعة، وعربونة والجلمة وعرانة، بشكل كامل عند نقطة تقاطعها مع الطريق الالتفافية، ما اضطر الأهالي لسلوك طرق جبلية وعرة للوصول الى جنين وبذل وقت وجهد كبيرين بدل من دقائق معدودة. وقد ادرجت (اسرائيل) هاتين المستعمرتين اضافة الى مستعمرة «سانور» وحوميش ومعسكر لقوات الاحتلال ضمن خطة «فك الارتباط» الأحادية التي يجري تنفيذها هذه الأيام، وذلك للتخلص من العبء الذي تتكبده في توفير الأمن لها خاصة انها تعتبر نائية وغير مجدية بمقياس المصالح الاستراتيجية لدولة اسرائيل. وعن ذلك يقول: منذ سنوات الانتفاضة نلاحظ ان عدد المستوطنين في هاتين المستوطنتين تقلص كثيرا والمعلومات التي يتناقلها المواطنون ان نسبة كبيرة منهم قد رحلوا ومن لم يرحل كليا يأتي بين فترات متباعدة ليثبت انه لا زال موجودا ويحسن شروطه للحصول على تعويضات من حكومته. واضاف: منذ سنوات التسعينيات بدا يدور حديث عن عدم وجود مبرر لهاتين المستعمرتين بعد انتهاء دور الادارة المدنية السابق، وقد جاءت الانتفاضة واصبح الأمن يكلف اسرائيل كثيرا حيث ترافق سيارات المستوطنين قوات من الجيش ذهابا وايابا.